المواطنة

تاريخ النشر: 23 أغسطس 2014 - 02:43 GMT
البوابة
البوابة

 

الدكتور فايز الربيع

 

مفهوم المواطنة:

 

يعرّف بعض المتخصصين في العلوم الاجتماعية المواطنة على أنها مجموعة من الإلتزامات المتبادلة بين الشخص والدولة، فالشخص يحصل على حقوق ويؤدي واجبات(1)، وهي تشمل كذلك صفات المواطن ومسؤولياته. وتتميز المواطنة بوجه خاص بولاء المواطن للبلاد وخدمتها بالتعاون مع الآخرين وتتضمن مستوى عالياً من الحرية مصحوباً بالعديد من المسؤوليات(2).

 

 

المواطنة بين الحقوق والواجبات

 

ويرى آخرون أن المواطنة نظام سياسي اجتماعي يلتزم به الفرد اجتماعياً وقانونياً بالجمع بين الفردية والديمقراطية. ويعتبر الفرد مواطناً إذا ما التزم بالقانون. وهي تتجلى في وعي الفرد واهتمامه بشؤون المجتمع وقدرته على العمل بكفاءة لصالحه وتتضمن القدرة على العطاء لتحقيق أهداف المجتمع مما يشيع أكبر قدر من الوعي بالأهداف المشتركة، وهي تعني صيغة مشاركة (مفاعلة)(3). ويقول البعض إنّ المواطنة كلمة مستحدثة في اللغة العربية اختارها المعربون للتعبير بها عن كلمة (politeia) والونانية و(Citoyennete) الفرنسية و(Citizenship) الانجليزية. وكلمة المواطن في اللغة العربية مشتقة من الوطن (المنزل الذي يقيم فيه الإنسان). ويقال: أوطن الأرض واستوطنها أي اتخذها وطناً ومنه أيضاً الإستيطان – الوطنية. والمواطنة (politeia polis) واستعمالات الكلمة في الغالب تبعد في الذهن الحديث عن بناء وعي حضاري يسهم في تجاوز المجتمع العضوي إلى المجتمع المدني والحق المطلق إلى حقوق الإنسان، ولا زالت البشرية لم تحسم قضية إلغاء الخيط الفاصل بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن، فليس كل إنسان مواطناً، وليس ثمة مساواة حقوقية إسمية بين البشر(4). إن المواطنة ليست مجرد شعار يرفع بعيداً عن الحقائق الموضوعية ووقائع الحياة وإنما هي انتماء وولاء واقعي وحقيقي للوطن والدفاع عنه مع ضرورة إعطاء الإمكانات اللازمة للمواطنين لكي تحفظ حقوقهم حتى نستطيع أن نعطي حافزاً ودافعاً للمواطن للمشاركة الحقيقية، والفعّالة. لقد عرفت الحضارة الفينيقية مفهوم المواطنة ووضعت تصنيفاً للسكان يحدد الحقوق السياسية والمدنية.

 

عند الإغريق وبالرجوع إلى كلمة (polis) نجد أن معناها هو حالة التحام مكاني، هوية مرتبطة بالبقعة السياسية والملكية العقارية للمواطن وهي تكتسب بالولادة لأبوين مواطنين، أو لأحدهما، كما بقيت الملكية العقارية شرطاً أساسياً للمواطنة، أما المرأة فأساس مشاركتها هو توريث المواطنة للأبناء من أبوين لديهما هذا الامتياز والمأثورة اليونانية تقول: (المرأة الشريفة تبقى في بيتها، لأن الشارع للنساء الفتيات) وأحياناً تكتسب المواطنة مقابل خدمات تقدم، وقد تعرض أفلاطون في دعوته للمواطنة المثالية القائمة على المساواة في الموارد والخيرات.

 

يعتمد الفكر الدستوري والقانوني على المواطنة لبناء النظريات السياسية والقانونية، فالمواطنة ليست شعاراً يرفع إنما هي انتماء حقيقي وولاء للوطن، والواجب الأساسي للمواطنة هو الإخلاص والولاء للأمة كما يفرضه ذلاك من حقوق وواجبات(5).

 

سياحة تاريخية ووقوف عند النصوص

 

يقول الدكتور هيثم منّاع: إنه بقدر ما كانت الكنيسة أقسى من يسوع، كان التاريخ والفقه الإسلاميان أقل رحمة من النص القرآني عندما كان المسلمون في مكة، لم تكن هناك دولة كان هناك إسلام فردي أو على مستوى الأسرة، ثم كانت بيعة العقبة الأولى والثانية، بيعة سياسية تحدد ملامح المجتمع الجديد والنصرة الجديدة، كي ينتقل المسلمون من فكرة الدولة إلى دولة الفكرة كان هناك تأكيد على النصرة في الحرب والسلم وعلى الطاعة بالمعروف والمجاهرة بالحق.

 

بالهجرة إلى المدينة أصبح للمسلمين ملامح جديدة لكيان دولة فقد أصبح لهم أرض يأوون إليها، ولهم موارد اقتصادية، ثم تبلور ما يسمى (بالضمير الاجتماعي) الذي يعني:

 

الالتقاء القلبي والفكري على غاية مشتركة، والذي تبلور فيما بعد (بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار(6)، أما العنصر السياسي. فقد تبلور بهجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – حيث بدأ السلطان السياسي وتبلور بأول دستور مكتوب ألا وهو (وثيقة المدينة) أو (دستور المدينة). محتوى الوثيقة:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذا كتاب من النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بين المؤمنين والمسلمين من قريش و(أهل) يثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم.

 

1) إنهم أمة واحدة من دون الناس.

 

2) المهاجرون من قريش على ربعتهم(7)، يتعاقلون بينهم، ويفدون عانيهم(8) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

 

3) وبنو عوف على ربعتهم(9) الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

 

4) وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

 

5) وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

 

6) وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

 

7) وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

 

8) وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

 

9) وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

 

10) وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

 

11) وألاّ يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

 

12) وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة(11) ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم.

 

13) ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.

 

14) وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعضد دون الناس.

 

15) وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر علهيم.

 

16) وإن سلم (بكسر السين وتسكين اللام) المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيال الله، إلا على سواء وعدل بينهم.

 

17) وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً.

 

18) وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.

 

19) وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

 

20) وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على المؤمن.

 

21) وإنه من اعتبط(12) مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود (بفتح القاف والواو) به، إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

 

22) وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وأنه من نصره، أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

 

23) وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.

 

24) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

 

25) وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ(13) إلا نفسه وأهل بيته.

 

26) وإن ليهود بني النجار مثلما ليهود بني عوف.

 

27) وإن ليهود بني الحارث مثلما ليهود بني عوف.

 

28) وإن ليهود بني ساعدة مثلما ليهود بني عوف.

 

29) وإن ليهود بني جشم مثلما ليهود بني عوف.

 

30) وإن ليهود بني الأوس مثلما ليهود بني عوف.

 

31) وإن ليهود بني ثعلبة مثلما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

 

32) وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

 

33) وإن لبني الشطيبة مثلما ليهود بني عوف، وأن البر دون الإثم.

 

34) وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

 

35) وإن بطانة(14) يهود كأنفسهم.

 

36) وإنه لا يخرج منهم أحد، إلاّ بإذن محمد – صلى الله عليه وسلم.

 

37) وإنه لا ينحجز على ثأر جرح.

 

38) من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته إلا من ظلم، وإنه وأن الله أبر هذا(15).

 

39) وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من يحارب أهل هذه الصحيفة.

 

40) وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.

 

41) وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.

 

42) وإن اليهود ينفقون على المؤمنين ما داموا مُحاربين.

 

43) وإن يثرب (المدينة المنورة) حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

 

44) وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

 

45) وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

 

46) وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخالف فساده، فإن مرده إلى الله "عز وجل" وإلى محمد – صلى الله عليه وسلم – وأن الله على أتقى ما في هذه وأن الصحيفة وأبره.

 

47) وإنه لا تُجار قريش ولا من نصرها.

 

48) وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.

 

49) وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم (ما) على المؤمنين إلا من حارب في الدين.

 

50) على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.

 

51) وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.

 

52) وإن البر دون الإثم لم يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

 

53) إنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.

 

54) وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (16)

 

وهناك وثيقة أخرى وهي وثيقة نصارى نجران

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذا ما كتب محمد النبي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأهل نجران: إذ كان عليهم حكمة في كل ثمرة، وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق، فأفضل ذلك عليهم، وترك ذلك كله لهم، على ألفي حلة من حلل الأواقي، في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقية من الفضة. فما زادت على الخراج، أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع، أو خيل، أو ركاب، أو عروض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤونة رسلي، ومتعتهم، ما بين عشرين يوماً فما دون ذلكن ولا تحبس رسلي فوق شهر.

 

وعليهم عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، إذا كان كيد باليمن وممرة، وما هلك مما أعاروا رسلي من دروع، أو خيل، أو ركاب، أو عروض، فهو ضمين على رسلي، حتى يؤدوه إليهم.

 

ولنجران وعاشيتها، جوار الله وذمة – محمد النبي رسول الله – على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم وعشيرتهم، وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب ولا كاهن من كهانته. وليس عليهم رُبيّة، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين.

 

ومن أكل رباً من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر.

 

وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله وذمة محمد النبي – رسول الله – حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم، غير مثقلين بظلم. شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمر ومالك بن عوف من بني النصر، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة بن شعبة، وكتب لهم هذا الكتاب عبدالله بن أبي بكر.

 

أهم المبادئ التي تضمنتها وثيقة المدينة (دستور المدينة):

 

1) تحديد أساس المواطنة في الدولة: حيث أحلت الوثيقة الرابطة الدينية محل الرابطة القبلية فعبرت عن المسلمين بأنهم (أمة من دون الناس) وهذه ظاهرة يعرفها المجتمع العربي لأول مرة، حيث كان الناس يجتمعون على القرابة والنسب.

 

2) اعتبرت الوثيقة اليهود المقيمين في الدولة من مواطنين الدولة وحددت ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات ففي فقرتيها (24) و(25) تقرر الوثيقة أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم ولا يقف الأمر عند يهود بني عوف وحدهم وإنما تمضي النصوص من الفقرة (26) إلى الفقرة (36) لتقرر لباقي قبائل اليهود مثلما تقرر ليهود بني عوف.

 

3) حددت الوثيقة واجبات المشركين مما يشير إلى دخولهم في مواطنة الدولة الجديدة. ففي النص 21 يقرر (أنه لا يجبر مشرك مالا لقريش ولا يحوله دونه على مؤمن)(17).

 

4) إن هناك إقراراً بالمساواة في الحقوق والواجبات بين العصبات المسلمة واليهودية، ويوجد إقرار لقاعدة المناصرة في ظروف الحرب، وإقامة علاقات قائمة على البر والنصيحة دون الإثم في ظروف السلم(18).

 

5) تقوم العلاقة بين العناصر الموقعة للصحيفة على أساس التعددية التجاورية وليس التعددية الاندماجية، والجماعة مسؤولة عن أخطاء أفرادها (أي تطبيق القانون الشخصي عليهم). إن هذه الصحيفة قد سبقت كل الأشكال المؤسساتية في أشكال الحكم.

 

إن إحلال القتال للمسلم كان لدفع الظلم كما قال الله تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير(40) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (سورة الحج 39 – 40)

 

إن المؤمن بهذا النص صابر، مُتسامح، مُتعايش مع الغير، وقتاله يتقرر لدفع الأذى والظلم فقط، وهو عندما انتقل من أخلاقيات الدين المتسامح إلى رد الظلم إنما قام بها أيضاً ضمن سلطان الدولة وليس من منطق الأفراد.

 

وإذا كان مصطلح الدستور من المصطلحات المعربة التي دخلت العربية من اللغات الأخرى، وإذا كان هذا المصطلح يعني حديثاً مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ومدى سلطتها إزاء الأفراد فإن هذه الصحيفة هي دستور الدولة العربية الإسلامية الأولى بكل ما يعنيه حديثاً مصطلح الدستور من مضامين، ولقد صيغ هذا الدستور لينظم القواعد الأساسية لدولة المدينة ورعيتها بعد أن نزل الوحي بقسم كبير من القرآن الكريم، هو الإطار الذي فيه المبادئ وبه الروح والمقاصد والضوابط والغايات(19) والقرآن هو الإطار وليس هو نص الدستور.

 

وذات مواده وعين قوانينه، إن الدستور يضبط وينظم ويفصل في صياغة محكمة الدلالة بين الحدود.

 

ورعية هذه الأمة لم تقف عند الجماعة الأولى (ورعية الجماعة، الأمة، المؤمنة) بل كانت رعية سياسية اتخذت المعيار السياسي ميزاناً.

 

إن غير المسلمين المواطنين في الدولة الإسلامية لهم حقوق المواطنة وعليهم واجباتها، لا فرق بينهم وبين المسلمين في التمتع بالخدمات والانتفاقع بالمرافق وشغل الوظائف غير الدينية، فالوظائف الدينية تقتصر في شأن أهل أيّ دين على المؤمنين به.

 

إن الذمة عقد وليست وضعاً، والعقود بطبيعتها قابلة للإنهاء، أما الأوضاع فهي باقية ما بقيت شروطها والظروف التي سوغت قيامهان وإذا كان عقد الذمة قد انقضى ولم يعد أي من أطرافه قائماً فقد نشأ الوضع الجديد وضع المواطنة الذي يستوي فيه المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات الانونية أمام الدولة وسلطانها.

 

وإذا كان المسلم ملزماً ديانة بما أمرته به نصوص القرآن والسنة من البر والقسط وحسن المعاملة للمواطنين من غير المسلمين ولا سيما أهل الكتاب منهم، فإن هذا الإلتزام الديني سيجعل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين قائمة في ظلال الأخوة في الوطن والمناظرة في الإنسانية التزاماً بحدود القانون والدستور.

 

إن الدفاع عن الوطن عند المسلمين هو جهاد، والمسلم مكلف به باعتباره مسلماً، أما غير المسلم فهو مكلف به حيث إنه مواطن، وأمر تكييفه الديني متروك لأحكام دينه لكنه قطعاً يسقط فترة الجزية في ظل عقد الذمة والعقد نفسه غير قائم(20).

 

ويجب أن يسمح لغير المسلمين في الدولة الإسلامية إقامة دور العبادة الخاصة بهم، وبالمقابل فإن الدول التي يعيش فيها المسلمون كمواطنين يجب أن يسمح لهم بنفس الحقوق، وهذا يدعونا أيضاً إلى إعادة النظر في التقسيم القديم للعالم (دار حرب، ودار إسلام) عندما كان العالم ينقسم إلى ثلاثة أقسام (العالم الروماني، والعالم اللاتيني، وعالم الآخرين)، والتقسيم الجديد ينظر إلى العالم كدار واحدة هي دار عهد وموادعة، تطبق فيها أحكام الإسلام على المسلمين أينما كانوا سواء كانوا أقلية أو أفراداً، إن القاعدة الأساسية في أحكام أهل الذمة (المواطنين من غير المسلمين) في الدولة الإسلامية أن لهم مثلما للمسلمين وعليهم مثلما على المسلمين إلا ما استثني بنص، فلهوم حق الحماية الداخلية، بل لقد نص الفقهاء على أنه من كان من أهل الذمة في بلادنا وجاء أهل الحرب يقصدونه (أي الذمي) وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله ورسوله ويعلق القرافي على ذلك بقوله (إن عقداً يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم)(21).

 

لقد أصر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمهُ الله – على إطلاق من كان في أسر التتار من أهل الذمة مع إطلاق المسلمين فقال لقائد التتار: "لا نرضى إلا بإطلاق جميع الاسارى من اليهود والنصارى فهم أهل ذمتنا ولا ندع أسيراً من أهل الذمة ولا من أهل الملة" والإمام علي – كرم الله وجهه – يقول: "من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا"(22) وإذا انتقلت تلك الحقوق والواجبات في الدولة الإسلامية العصرية من النطاق العقدي إلى النطاق الدستوري فإن ذلك لا يؤثر بشيء في التزام الدولة الإسلامية العصرية بها قضاء من حيث هي واجب دستوري وديانة بإرجاعها إلى أصلها(23).

 

لقد قام الرسول – صلى الله عليه وسلم – لجنازة يهودي، ومات ودرعه مرهونة عند كتابي(24). ولقد قرر الفقهاء في معنى البر (الرفق بضعيفهم وسد حاجة فقيرهم، وإطعام جائعهم وكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل التلطف والرحمة واحتمال أذيتهم في الجوار لطفاً بهم لا خوفاً منهم، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم وإيصالهم إلى جميع حقوقهم(25). إن للمواطنين في الدولة الإسلامية حقوقاً أساسية منها الحقوق السياسية – وهي الحقوق التي يكتسبها الشخص باعتباره عضواً في هيئة سياسية مثل حق الانتخاب والترشيح وتولي الوظائف العامة في الدولة، فمنها انتخاب رئيس الدولة القائم على مبدأ الشورى، والمرتكز إلى أن الأمة مصدر السلطات والمستند إلى مبدأ حق المراقبة، والمساواة والحرية، وحرية العقيدة والعبادة وحرمة المسكن وحرية العمل والتملك والرأي والعلم وثقافة الدولة وهي تشمل كل المواطنين بغض النظر عن الدين(26)، حيث كتب خالد بن الوليد – رضي الله عنه – لأهل الحيرة كتاباً اكد فيه ضرورة إعالة من افتقر من أهل الذمة، وعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كتب إلى عاملة على البصرة: "وأنظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولّت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه"(27).

 

تعددية الأديان والثقافات في الدولة الإسلامية

 

إن نظرة سريعة على جوانب تطبيقية من حياة غير المسلمين في الدولة الإسلامية في بغداد وخلال القرن الخامس الهجري على التحديد(28) تكشف عن تعددية في الأديان والمذاهب إلى جانب التعددية الثقافية، وهي تعددية كانت مصدر غنى وإبداع، وعاملاً مهماً في الإزدهار الحضاري.

 

وجاء التعدد في إطار مجتمع مفتوح، لأهله حرية العقيدة والدين، ولهم مجال المشاركة في الوظائف العامة، فهي تكاد تكود مفتوحة للجميع بإستثناء رئاسة الدولة.

 

وكانت مشاركة غير المسلمين واضحة في الحياة الثقافية، وتميزت في ترجمة كتب الطب والعلوم والفلسفة من السريانية واليونانية إلى العربية، كما شاركوا بنشاط واسع في الحركة العلمية كتابة وتأليفاً، وكان دورهم في الطب ملحوظاً في العصر العباسي.

 

وكانت الدولة تتعامل مع غير المسلمين عن طريق رؤسائهم الدينيين ومجالسهم التي تتولى إدارة شؤونهم وتطبيق شرائعهم في أحوالهم الشخصية ولكن لهم حق التقاضي أمام القضاة المسلمين.

 

لقد تناول الباحثون مصطلح (الذمة) بالبحث والدراسة لتحديد دلالته فالذمة لغة هي: العهد والأمانة والضمان(29)، أما في الاصطلاح فالاختلاف واضح بين الفقهاء في تحديد من هم الذين يطلق عليهم إسم أهل الذمة(30). والأرجح أن أهل الذمة هم جميع أصناف غير المسلمين الذين يعيشون في الدولة بصفة دائمة(31). وقد قسموا إلى أصناف ومنها المحاربون والمستأمنون، وأهل الذمة(32)، فالمحاربون هم كل من حارب المسلمين أو انتسب إلى قوم يحاربون المسلمين سواء كانت المحاربة فعلية أم كانت متوقعة(33).

 

أما المستأمنون فهم الكفار والمحاربون أصلاً ولكنهم يطلبون الأمان من المسلمين فيدخلون دار الإسلام آمنين على أنفسهم وأموالهم ويستقرون تحت حكم المسلمين مدة محددة من الزمن، يقول الماوردي: "وقد أمر الله عز وجل بإجابة طلب الكفار إذا طلبوا الأمان.

 

أما أهل الذمة فهم غير المسلمين الذين دخلوا في ذمة الدولة مع التزامهم بمجموعة من الأحكام والشروط. فأصبحوا بذلك من أهل دار الإسلام وبصورة دائمة(34)، وقد ورد عن علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – أنه قال: "إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا"(35).

 

يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه حقاً، أو كلفه فوق طاقته, أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة" وأشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بإصبعه إلى صدره، وقال: (ألا من قتل معاهداً له ذمة رسول حرم الله عليه ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفاً)(36).

 

(ومن آذى ذمياً فأنا خصمه(37)، ولهم ذمة الله وذمة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن يوفي لهم بعهدهم وأ، يُقَاتَلَ من ورائهم ولا يُكلّفوا فوق طاقتهم)(38).

 

من هنا كان لأهل الذمة في الدولة الإسلامية مجموعة من الحقوق وعليهم مجموعة من الواجبات، وأهم الحقوق التي يتمتع بها أهل الذمة: الأمان على أنفسهم وأبنائهم وذرياتهم وأموالهم وممتلكاتهم وحمايتها من الإعتداء الخارجي والداخلي.

 

وفي العهد الصادر عن الناصر لدين الله لرأس المثيبة دانيال بن العازر بن هبة الله اليهودي سنة (605هـ/ 1208م) ما نصه: فالمسلم والذمي والمعاهد في ظل أيادي الشريعة وادعون وفي رياض الأمانة رائعون، ومما يكلأهم من عين رأفته اليقظى هاجعون، لا يكدر لهم شرب، ولا يذعر لهم سرب(39). (كلمة سرب: تعني النفس).

 

وعلى المحتسب أن يعمل على تأمين حماية أهل الذمة من اعتداء المسلمين، ويقول الماوردي: ويمنع عنهم (أهل الذمة) من تعرض لهم من المسلمين بسبب أو أذى، ويؤدب عليه من خالفه(40)، وكانت قوات الشرطة تقف إلى جانب أهل الذمة لتحميهم من تجاوز العامة.

 

وعلى الدولة حماية أهل الذمة من أي عدون خارجي، يقول إبن عقيل (ت513هـ/ 1119م) عن الذمي: "وهو محمي الجانب بنا: حتى لو قصد قريته قوم من أهل الحرب جهزنا إليهم عساكر الإسلام حامية لهم مخاطرة بأنفسهم منفقة لأموالها في ضمانته)(41).

 

ومن حقوق أهل الذمة أيضاً الاستفادة من الخدمات والمرافق العامة للدولة، فقد كانوا يتلقون العلاج في بيمارستانات بغداد كالمسلمين تماماً(42)، كما كانوا يرعون خيلهم وماشيتهم في المراعي العامة، يقول الماوردي في حديثه عن الحمى "فإن كان (أي الحمى) للكافة تساوي فيه جميعهم من غني وفقير ومسلم وذمي في رعي كلأهم بخيلهم وماشيتهم)(43).

 

ومن حق الذمي اللجوء إلى القضاء الإسلامي إذا تعرض للظلم أو الإعتداء ومن حقه الإقامة حيث شاء في الدولة الإسلامية وأينما شاء دون أن تكون هناك أحياء خاصة لأهل الذمة لا يستطيعون تجاوزها(44) في الدولة الإسلامية ويعملون في التجارة وغيرها بحرية تامة باستثناء الحرام(45)، سواء كان يعمل لحساب نفسه أو متعاقداً.

 

وفي الأدبيات التاريخية والفقهية أنه يجوز للذمي أن يتولى عدداً من المناصب في الدولة وعلى رأسها منصب وزير التنفيذ دون وزير التفويض، ووظيفة كاتب الديوان(46)، إذ لا يشترط الماوردي الإسلام فيمن يشغل هذه الوظائف.

 

في القرن الخامس الهجري مثلاً كانت بغداد هي الموطن الرئيسي لأهل الذمة، فهي مقر رؤسائهم... وكان النصارى يقيمون في مختلف أحياء بغداد دون أن يكون هناك حي خاص بهم، فمنهم من كان يسكن في الكرخ(47)، فقد قرأ الطبيب يحيى بن عيسى (ت 473هـ/ 1080 – 1081م) الطب على نصارى الكرخ، كما أخذ علي بن علي السيف الآمدي الذي ولد بعد عام (550هـ/ 1155م) علم الأوائل عن جماعة من نصارى الكرخ ويهودها من النصارى من كان يسكن درب الشاركرية(48)، ومنهم من يسكن دروب باب المراتب(49) ومنهم من كان يسكن في سوق الثلاثاء(50)، حيث توجد كنيسته سوق الثلاثاء(51)، ولكن يبدو أن أكثر النصارى كانوا يعيشون مجتمعين مع بعضهم حول كنائسهم، حتى أن بعض المحلات عرفت بهم، فدار الروم هي محلة في الجانب الشرقي من بغداد(52)، وكان فيها الكثير من دور النصارى المجاورة للبيعة المعروفة بدير الروم(53)، ومن محلات بغداد قيطعة النصارى(54). لعل هذه التسمية جاءت من وجود عدد من الصنارى يسكنون حول دير العذارى الموجود فيها(55) وهناك حي اليعاقبة بالمحول إلى الجنوب الغربي من بغداد(56)، ويذكر أن الطبيب صاعد بن توما اليعقوبي (ت 620هـ/ 1223م) دفن في البيعة بالمحول(57).

 

وكان اليهود يعيشون في بغداد. وقد ذكر بنيامين أن عدد يهود بغداد قد يصل إلى أربعين ألف شخص(58) ولعل هذا الرقم فيه مبالغة ويرى آدم متز أنهم لم يتجاوزوا الألف شخص.

 

وكان في تكريت جماعة مهمة من النصارى اليعاقبة(59)، وقد ذكر إبن حوقل أن أكثر أهل تكريت من النصارى وأنها تجمع بين سائر فرق النصارى(60)، وقد كان في تكريت مطران للنصارى اليعاقبة(61).

 

وسكن أهل الذمة في المناطق الجنوبية للعراق، ففي البصرة عاشت جماعات من أهل الذمة، فقد كان فيها نحو عشرة آلاف يهودي(62)، وكان الواعظ اليهودي إسحاق سارشالوم يتردد عليها لإلقاء مواعظة على اليهود فيها وذلك في الفترة (607 – 630هـ/ 1210 – 1232م)(63).

 

وكانوا يتمتعون بحرية تامة في ممارسة شعائرهم الدينية سواء في بيوتهم أو في دور العبادة عندهم، وتسمى دور العبادة عند النصارى: الدير والعمر والكنيسة والبيعة والصومعة والقلاية، أما الدير فهو البيت الذي يجتمع فيه الرهبان للتعبد، ويغلب عليه أن يكون خارج البلد كأن يكون على رؤوس الجبال أو في الصحارى أو على ضفاف الأنهار، وتسمي من يسكنه ويعمره بالديراني، فإذا كان هذا البيت داخل المصر فإنه يسمى بيعة أو كنيسة(64)، ويسمى الدير أحياناً بالعمر، وقد بين ياقوت أن هذه التسمية مأخوذة من قولهم فلان عامر لربه أي عابد فيكون العمر هو الموضع الذي يعبد فيه، أو من الاعتمار والعمرة وهي الزيارة فيراد به الموضع الذي يزار، أو من قولهم: عمرت ربي وحجته أي خدمته، فيكون العمر هو الموضع الذي يخدم فيه الرب(65) والصومعة فيبنيها الراهب لينفرد فيها متعبداً وتكون مرتفعة كالمنارة ولا يكون لها باب بل فيها طاقة يتناول منها طعامه وشرابه وما يحتاج إليه(66)، ومما يدل على ارتفاع القلايات وصف الشاعر:

 

بحق ما شامخ الصوامع

 

من ساجد لربه وراكع(67)

 

ممارسة الحياة الاجتماعية

 

وكان أهل الذمة يمارسون حياتهم الاجتماعية بحرية تامة، ولهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصة بهم، فمن حيث الزواج كانوا يتزوجون حسب شرعهم وعاداتهم وتقاليدهم، وقد أقر الشرع الإسلامي عقود الزواج لأهل الذمة ما داموا لم يترافعوا إلى القاضي المسلم، وما داموا يعتقدون بصحتها حسب شرعهم(68).

 

كما أجاز الشرع للمسلم أن يتزوج الكتابية مع احتفاظها بدينها وذلك لقوله: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا اتيتموهن أجورهم محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) سورة المائدة، آية 5)(69)، وفي هذه الحالة لا يحق للمسلم أن يجبر زوجته الكتابية على ترك دينها كما لا يحق له منعها من أداء شعائرها التعبدية(70).

 

وخرج الجاثليق مكرماً رغم أنه كان ذمياً(71) فقد ورد عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنه عاد جاره اليهودي(72).

 

كما أجاز الفقهاء تعزية الذمي إذا مات له شخص وأجازوا تهنئته في المناسبات السعيدة التي تمر به كالزواج أو القدوم من سفر أو أن يرزق بمولود ونحو ذلك(73).

 

كان الكثير من المسلمين يشاركون النصارى الاحتفال في أعيادهم الدينية حتى أصبحت بعض الأعياد النصرانية أعياداً شعبية يشارك فيها الجميع(74)، فدير الثعالب مثلاً له عيد لا يتخلف عنه أحد من النصارى والمسلمين(75)، وكان (بدرسمالو) مكاناً مخصصاً للاحتفال بعيد الفصح، وكان المسلمون من أهل التطرب واللهو يشاركونهم من أجل التنزه واللهو.

 

حياة مشتركة

 

كان النصارى أقرب إلى المسلمين من اليهود، يقول الجاحظ: (النصارى أحب إلى العوام من المجوس وأسلم صدوراً عندهم من اليهود وأقرب مودة وأقل غائلة وأصغر كفراً وآهون عذاباً)(76)، ويبين الجاحظ أسباب تفضيل النصارى على اليهود فيذكر من هذه الأسباب قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا والذين اشركوا ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وانهم لا يستكبرون) (سورة المائدة، آية 82).

 

ومن الأسباب أيضاً ان النصرانية كانت منتشرة في العرب قبل الإسلام بخلاف اليهودية التي لم تكن غالبة على قبيلة من قبائل العرب، ومنهم أيضاً أن العوام رأوى في النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين وليس في اليهود مثل ذلك، كما رأوا في النصارى كتاب السلاطين وأطباء الأشراف وفراشي الملوك والعطارين والصيارفة، أما اليهود فيغلب عليهم أنهم صبّاغون أو حجّامون أو دبّاغون وما إلى ذلك من المهن، فعظمت منزلة النصارى عندهم أكثر، وذلك زمن جثلقة يوحنا بن الطرغال (441 – 449هـ/ 1057 – 1049م)(77)، وقد أجاز الفقهاء للمسلم أن يشارك الذمي في التجارة ونحوها شريطة أن يكون المسلم هو الذي يلي المال خوفاً من ان تستخدم الأموال في الأمور المحرمة كالربا وبيع الخمر وغيره(78).

 

امتد التعايش بين أهل الذمة وبين المسلمين ليشمل جوانب ذات طابع ديني، فمثلاً أجاز الفقهاء لأهل الذمة أن يخرجوا مع المسلمين إلى صلاة الاستسقاء(79)، كما أجازوا للمسلم ان يتصدق على الذمي ولكن لا يعطيه من مال الزكاة(80)، وأجازوا له أن يأخذ من صدقات الذمي إن كان محتاجا(81)، وقد أجاز أبو حنيفة – رحمه الله – أن يعطي الذمي من صدقة الفطر(82)، كما أجازوا للمسلم ان يوصي لأهل الذمة(83)، وان يخصص أوقافا عليهم على ألاّ يكون الوقت مخصصاً لكنائسهم.

 

ولكن الفقهاء لم يجيزوا ان يمتلك الذمي عبداً مسلماً لما في ذلك من صغار للمسلم.

 

وسطية مستنيرة

 

وهكذا نجد أن وسطية الإسلام أمر واقع، وفي ضوء الفقه الحضاري، نجد أن عملية بزوغ حضاري جديد يؤسس لمرحلة جديدة، فكراً وتأصلاً، بحيث ينتج عن ذلك مشروع علمي للحضارة تشكيل العقل المسلم – ويعيد تشكيل المجتمع المسلم – بتقدمه نحو الإسلام الذي أراده الله سبحانه وتعالى لنا ديناً كاملاً وارتضاه لنا مفتاحاً للجنة.

 

نظرة إلى الواقع

 

ابتداءً فإن الحديث عن حقوق المواطنة حديثاً يندرج على كل المواطنين (مسلمين وغير مسلمين)، نحن نتحدجث الآن عن المواطن والمواطنة في الدول العصرية، القطرية والقومية، فلو أخذنا العالم العربي لوجدنا ان (المواطنة)، لم تعد مشاركة في خدمة الوطن الذي يعيش فيه الإنسان، فربما يعيش الإنسان فترة طويلة في منطقة ولا يحصل على حقوق المواطنة من الدرجة الأولى كما تسمى، فالحديث لا يجري عن مسلم وغير مسلم.

 

ولم تعد قضايا (الذمة) مطروحة، واستعيض عنها بحقوق الأقليات وربما أصبحت هذه الحقوق جسراً للتدخل وشعاراً يطرح.

 

القضية الآن لا تتعلق بالدين وانما تتعلق بحقوق المواطن مطلقاً، إن غير المسلمين في البلاد الإسلامية لهم من الحقوق ما لا يمكن لعاقل إنكاره، وإن الدعوات التي نسمعها في الغرب، عن العنصرية الجديدة، من نازية وفاشية، ومطالبات بطرد الأقليات، وسن القوانين أحياناً التي لا تعطيهم الحقوق المطلوبة ناهيك عن طرح الدولة اليهودية النقية وطرد غيرهم من الفلسطينيين، واعتبارهم مواطنين ليسوا من الدرجة الأولى، هذا بالرغم من الإضاءات الكثيرة من الحقوق والرعاية التي يلقاها المسلمون كأقليات دينية أو عرقية في البلاد التي يهاجرون إليها.

 

لقد لاحظنا من خلال عرضنا للنصوص بدءاً من مصدرها في زمن الرسالة ومروراً بالتطبيقات العملية ان هناك نقاطاً مضيئة في التشريع الإسلامي، وأن هناك نكوصاً مضيئة في التشريع الإسلامي، وأن هناك نكوصاً في بعض الأحيان نتيجة الخلل في التطبيق سواء كان ذلك على المواطن المسلم أو الذمي.

 

ما حدث للمسلمين عبر التاريخ من اضطهادات لا يمكن مقارنتها مثلاً في الأندلس أو إبان الحرب الصليبية مع ما صدر عن المسلمين تجاه غيرهم. وإذا أردنا أن نؤصل لواقع جديد فإننا لا بد وأن نتحدث عن دولة (مدنية) بمرجعية إسلامية، يأخذ فيها المواطنون حقوقهم ويؤدون واجباتهم في ظلال هذه المرجعية التي تكفل حق الجميع.

 

ورقة قدمها في ورشة عمل بعنوان " قضايا المرأة والأقليات في خطاب الحركات الإسلامية" نظمها مركز القدس للدراسات الاستراتجية

 

الاشتراك

اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن