يُقبل علينا شهرٌ عظيم من شهور الله، شهرٌ اختصّه الله بالتعظيم وجعله من الأشهر الحُرم، إنه شهر رجب. وهو محطة إيمانية مهمّة يوقظ القلوب، ويفتح باب المراجعة الصادقة مع النفس قبل الدخول في موسم الطاعات الأكبر، شهر رمضان.
قال الله تعالى:﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ… مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ… فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾،
وفي هذه الآية تنبيه عظيم إلى حرمة الزمان، ودعوة صريحة لتعظيمه بالطاعة وترك المعصية.
وقد شبّه العلماء مسيرة الاستعداد لرمضان بمواسم الزراعة؛ فرجب هو شهر الغرس، تُبذر فيه النيات الصادقة وتُوضع فيه اللبنات الأولى للطاعة، ثم يأتي شعبان شهر السقي والمداومة، ليكون رمضان شهر الحصاد وجني الثمار. ومن فاته الغرس في رجب، شقّ عليه الحصاد في رمضان.
ومن الحكمة أن يبدأ العبد في رجب بما يتمنى أن يكون عليه في رمضان؛ فمن أراد حفظ القرآن بدأ، ومن أراد ترك ذنب بادر، ومن أراد إصلاح علاقة أو التزام طاعة فلا يؤجّل، فإن القلوب تُهيّأ بالتدرّج لا بالمفاجأة.
وقد خصّ الله الأشهر الحُرم بالنهي عن ظلم النفس، والظلم يشمل كل معصية أو تقصير في حق الله أو الخلق، كالغيبة والكذب والتهاون بالصلاة وعقوق الوالدين وأذى الناس. وإن كان الذنب قبيحًا في كل وقت، فإنه في هذه الأشهر أعظم جرمًا وأشد أثرًا على القلب.
قال ابن كثير رحمه الله: إن الظلم وإن كان عظيمًا في كل زمان، إلا أنه في الأشهر الحرم أعظم وأشد. ولهذا كان من الحكمة أن يقف الإنسان مع نفسه في رجب وقفة محاسبة، فيتأمل ذنوبه، ويعزم على تركها تعظيمًا لما عظّمه الله.
ومع فضل هذا الشهر ومكانته، إلا أن الشريعة جاءت منضبطة؛ فلم يثبت في رجب عبادة مخصوصة ولا صيام معيّن بنية خاصة، ولم تصح صلاة تُخصّ به كصلاة الرغائب، كما لم يثبت تاريخ محدد لليلة الإسراء والمعراج بسند صحيح. وإنما الفضل فيه كونه من الأشهر الحرم، يُعظَّم فيه العمل الصالح ويُحذَر فيه من المعصية.
وخلاصة الأمر أن رجب شهر البداية الصادقة، وشهر التهيئة القلبية، فمن أحسن الاستعداد فيه، وسار إلى الله بخطوات ثابتة، بلّغه الله رمضان بقلب أقرب، ونفس أصلح، وعمل أزكى.
الحمد لله الذي بلّغنا شهرًا من شهوره المباركة، وجعل الأزمنة محطاتٍ لتزكية القلوب ومراجعة النفوس. ها نحن نقف على أعتاب شهر رجب، أحد الأشهر الحُرم، نستقبله بقلوبٍ راجية، وأيدٍ مرفوعة، نسأل الله فيه القبول، والعون على الطاعة، والثبات على الخير، وأن يجعله بداية قربٍ صادقٍ منه، وتمهيدًا مباركًا للوصول إلى شهر رمضان.
دعاء استقبال شهر رجب
اللهم اهدني وأصلح حالي.
اللهم ارزقني بركةً في وقتي وعُمري.
اللهم أبعد عني كل ما يُشتتني.
اللهم يسّر لي كل صعب.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّي ولا مبلغ علمي.
اللهم وفّقني واكرمني بخير ما أحب.
اللهم أذهب عني الخوف والتوتر.
اللهم استرني بسترك الجميل.
اللهم لا تُشمِت بي أحدًا من خلقك.
اللهم أبعدني عن الحرام ويسر لي الحلال.
اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلّغنا رمضان بلاغَ رحمةٍ ومغفرة.
اللهم أعنّا في رجب على التوبة الصادقة، وتزكية القلوب، وترك الذنوب، وحبّ الطاعات.
اللهم اجعله شهرَ بدايةٍ للخير، ونقطةَ تحوّلٍ إلى ما تحب وترضى،واصرف عنا فيه المعاصي والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ارزقنا فيه صدق النية، وحسن العمل، وثبات القلب،ولا تجعلنا من الغافلين، واجعلنا فيه من المقبولين.