أكثر من 20 سنة من الخطأ في إدارة الشأن الاقتصادي اللبناني

تاريخ النشر: 11 أغسطس 2011 - 10:50 GMT
بينما هم منهمكون في إعداد دراسة العودة وتمويل المنشآت والآليات والمعدات اللازمة وتهيئة الكوادر العاملة وتدريبها، كانت الحكومات المتعاقبة منهمكة في تبنّي سياسة اقتصاديّة انفتاحيّة على العالم الخارجي من دون أن تُعلن للملأ عن هذه السياسة المبيّتة
بينما هم منهمكون في إعداد دراسة العودة وتمويل المنشآت والآليات والمعدات اللازمة وتهيئة الكوادر العاملة وتدريبها، كانت الحكومات المتعاقبة منهمكة في تبنّي سياسة اقتصاديّة انفتاحيّة على العالم الخارجي من دون أن تُعلن للملأ عن هذه السياسة المبيّتة

مرّ على لبنان حرب أهليّة دامت 15 عاماً أتت على معظم القطاعات الإنتاجية في معظم المناطق اللبنانية. ما إن تمّ توقيع اتفاقية الطائف وعاد الهدوء الأمني عام 1990 حتى أنبرى العديد من أصحاب المشاريع الصناعيّة والزراعيّة الى دراسة السبل لإعادة إحياء صناعاتهم وزراعاتهم وفق طرق حديثة خاصةً وقد فاتهم قطار التغيير والتحديث لعقدين من الزمن تقريباً.

بينما هم منهمكون في إعداد دراسة العودة وتمويل المنشآت والآليات والمعدات اللازمة وتهيئة الكوادر العاملة وتدريبها، كانت الحكومات المتعاقبة منهمكة في تبنّي سياسة اقتصاديّة انفتاحيّة على العالم الخارجي من دون أن تُعلن للملأ عن هذه السياسة المبيّتة خشية أن تواجه اعتراضات عليها من قبل أصحاب المشاريع الإنتاجيّة. فراحت تمرّر من حين إلى آخر قوانين تخفّّض بموجبها الرسوم الجمركية عَلى العديد مِن السلع الصناعية والغذائية. كما راحت توقع اتفاقيات التبادل التجاري الحر مع عديد مِن الدول الواحدة تلو الأخرى. وشرعت في التعجيل بتوقيع اتفاقية اليورو متوسطية وإلزام لبنان بموجبها بخفض الرسوم الجمركية على معظم السلع المستوردة. أمّا اتفاقية المنطقة الحرة العربية التي سعت إليها جامعة الدول العربية فكان لبنان سبّاقًا بين أعضائِها لتنفيذ ما تبقى من خفوضات جمركية إلى درجة إلغائِها إلغاءً تامًا بحلول 2004 للمنتجات ذات المنشأ العربي. وأخيرًا حرصت الحكومات المتعاقبة على السعي للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية منذ 1996 فسمحت لفريق من الحقوقيين اللبنانيين بالعمل تحت إدارة وإشراف وتوجيه وتمويل الوكالَة الأميركية USAID لوضع القوانيين الواجبة وتعديل بعض القوانين المعمول بها كي تتلاءم وشروط الانضمام لمنظمة التجارة العالمية التابعة للأمم المتحدة. ومع أنّ فريق العمل هذا قد أتمّ وضع وتحديث معظم القوانين المطلوبة إلاّ أنّه، بعد مرور 15 سنة، لم ينتهِ من مهمّته كما لم تتوصّل وزارة الاقتصاد من خفض الرسوم الجمركية على السلع المستوردة إلى الدرجة التي ترضي الدول الأعضاء في المنظمة كي توافق الأخيرة بالإجماع على انضمام لبنان. ومن المسلّم به أن الحكومتين الأخيرتين بعد اتفاقية الدوحة لم تسهّلا مهمة إنهاء القوانين المطلوبة من لبنان بموجب شروط المنظمة وإلاّ لكان لبنان انضمّ إلى المنظمة منذ خمس سنوات وقبل بكل شروط الدول الأعضاء فيها. وهي شروط أقل ما يقال عنها إنها تخضيعية تجعل من لبنان بلدًا مستهلكًا غير منتج. في ضوء هذا الواقع الأليم شاهدنا الوقائع التالية خلال الفترة من 1993 إلى 2010 أي خلال 17 سنة: 

ـ 1 ـ تجرأ بعض أصحاب المصانع والمشاريع الزراعية على العودة للإنتاج عن طريق إعادة تشغيل مصانعهم أو زراعاتهم بعد تحديث متفاوت. من هؤلاء من صمد صمودًا خجولاً ومنهم من تراجع أمام منافسة المنتجات المستوردة فأقفل وتحسّر وندبَ حظّه.
ـ 2ـ تجرأ عدد من المغتربين اللبنانيين الذين كانوا يتوقون للعودة بعد انتظار ربع قرن عملوا خلالها في دنيا الاغتراب، وتحدّوا وأسّسوا مصانع ومشاريع وذاقوا.
3 ـ نتيجةً لسياسة الانفتاح المفرط أقفلت عديد من الصناعات كالأحذية والملابس والسيراميك والزجاج والأدوية والكيماويات وغيرها وتوقفت زراعة العدس والحمص والفول والشمندر السكري والشعير والذرة وغيرها وأهملت زراعات عديدة أخرى كالتفاح والزيتون.
4 ـ صمَدت زراعات أو صناعات محدّدة بفضل الإبقاء على سياسة حمايتها وإلا لكانت اقرضت هي أيضاً. منها صناعة الإسمنت وزراعة التبغ وزراعة القمح.
5 ـ فشلت المؤسسة اللبنانية لتشجيع الاستثمار (إيدال) بتشجيع الاستثمار. لذلك أُسنِدت إليها مهمة إدارة دعم تصدير بعض المنتجات الزراعية.
6 ـ صدر قانون حماية الإنتاج الوطني تمامًا حسبما نصّه فريق العمل لإعداد لبنان للانضمام لمنظمة التجارة العالمية. أُعدّ هذا القانون بعناية فائقة خصيصًا لعرقلة حماية الإنتاج الوطني حيث يستحيل على وزير الاقتصاد بموجبه الوصول إلى إكمال أي ملف يتعلّق بحماية إنتاج أي منتج لبناني من منافسة مثيلة من المستورد.
7 ـ صدر قانون حماية المستهلك ليعتبر أنّ كل مُنتِج لبناني هو غشّاش بطبيعته يجب مراقبته والإجهاز عليه قبل التحقق من مخالفته وعليه أن يُثبت براءته بعد إدانته وتحويلها إلى النيابة العامة بدلاً من التعاون معه وإرشاده وإنذاره قبل الوصول إلى إدانته، ولا تتوقف المخالفة عند الإدانة بل تتعداها إلى الغرامة المالية المفرطة والسجن. بينما في المقابل يتنصل التاجر المستورد من أية مسؤولية عن أي مخالفة في مواصفات المنتجات المستوردة ويضع اللـّوم على الجهة المصنّعة في بلد المصدر فتأتي أقصى عقوبة هي إتلاف البضاعة المستوردة المخالفة للمواصفات أو عدم إدخالها الى لبنان. قانون جائر كهذا لا تتساوى فيه العقوبات على المنتج المحلّي والتاجر المُستورد يُخفّض من عزيمة المنتجين اللبنانيين ويجعلهم يتردّدون في الإنتاج في لبنان.
8 ـ لم تكن الأحزاب والهيئات السياسيّة تولي السياسة الاقتصادية أية اعتبار جدّي لأنّها كانت دائماً منشغلة في الشأن السياسي الضاغط. فهذه جميعها ظلّت تذكر في بياناتها الانتخابيّة اهتمامها بالشأن الاقتصادي والاجتماعي بطريقة شكليّة غير جدّيّة ولا دقيقة.
9 ـ لو عُدنا للبيانات الوزاريّة لكل الوزارات منذ 1990 حتى يومنا هذا لرأيناها تمرّ على الشأن الاقتصادي مرور الكرام وتُعلن «دعمها» و «إيلاءها» هذا الموضوع الاهتمام الذي يستحق. فكانت الوعود فارغة من مضمونها لا تتطرّق الى أيّة تفاصيل تبيّن فيها كيفيّة «الدعم» أو «الاهتمام» .
لقد خفي على الحكومات المتعاقبة وفات المسؤولين من رؤساء وزارات ووزراء مالية واقتصاد لدى اعتماد السياسة الاقتصادية المذكورة الكثير والكثير من التعقل والإدراك للمصلحة الاقتصادية العليا للبنان. من هذه الاعتبارات الأساسية ما يلي:

أولاً: لم يعتبروا أن مصلحة المواطن اللبناني لأي فئة اجتماعية أو اقتصادية انتمى تأتي أولاً وبأن أية اتفاقية تجارية مع أي بلد في العالم يجب أن تراعي مصلحة اللبنانيين وليس مصلحة الدولة الأخرى.
ثانياً: ليس سراً أو عجباً أن تكون كلفة الإنتاج في لبنان مرتفعة بسبـب صغـر مساحته وقلـة عدد سكانه وانعدام وجود الثروات الطبيعية كالطاقة ولا حتى الأمطار معظم أيام السنة. لكنّ ذلك يجب ألاّ يؤدي بالمسؤولين إلى الاستسلام وعدم تمكين المواطنين من العمل المنتج والذهاب بعيداً في تحدّيهم وقهرهم ومواجهتهم للمنافسة غير المتكافئة.
ثالثاً: معظم دول العالم المتقدمة اقتصادياً تسعى لتنويع مصادر دخلها أي لتنويع اقتصادها. وهذا ما أصرّت الحكومات المتعاقبة على الابتعاد عنه.
رابعاً: لم يقـدّر المسؤولون أهمية تعميم النشاطات الاقتصادية على كل المناطق اللبنانية وبالتالي لم تراع مصلحة ما يزيد عن مليون ونصف المليون من اللبنانيين الذين يعيشون في البقاع والجنوب والشمال والذين يقتصر دخلهم على الزراعة والصناعات الغذائية.
خامساً: تقدر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة بأن عدد سكان العالم سيـزداد 50% بحلول عام 2050 مقارنةً مع مطلع القرن. هذا يعني أن على كل دول العالم أن تجهّـز ذاتها
لإنتاج ما يمكن إنتاجه من غذاء منعاً لمواجهة الغلاء الكبيـر أو حتى استحالة الحصـول عليه. فما هي خطة الحكومات اللبنانية لمواجهة هذا الواقع غير الهروب من مواجهة سيناريوهات كهذه؟
سادساً: نادى المسؤولون بأهمية الاستثمار بالقطاعات المختلفة وبأن الاستثمار يوفر فرص العمل. لكن النداءات لم تقترن بأية خطوات محفزة للاستثمار.
سابعاً: بالرغم من انضمامها لمنظمة التجارة العالمية فإن معظم دول العالم وعلى رأسها الدول الصناعية تعتمد سياسة حماية منتجاتها وخاصة الغذائية منها إلى درجة أنها تمنّعت حتى يومنا هذا من توقيع اتفاقيات تبادل المنتجات الزراعية والغذائية والتي تطالب بها الـدول النامية. وكم رأينا ونرى العراقيل والحجج الواهية في السماح بدخول الصادرات اللبنانية وخاصة الغذائية منها بحجة سقف المواصفات القياسية الذي يرتفع من حين لآخر.
ثامناً: يستحيل على لبنان أن يرتفع تصنيفه من دولة في طور النمو إلى دولة نامية ثم إلى دولة متطورة اقتصادياً دون إشراك القطاعات الإنتاجية فـي الاقتصاد على نطاق واسـع.
تاسعاً: يستحيل على لبنان أن يتقدم اقتصادياً وهو يخسر طليعة شبابه المتعلم والمثقف ليهاجـر ويعمل لصالح دول أخرى في أرجاء العالم ويساهم في تطوير اقتصاد تلك الدول.
عاشراً: راقبت الحكومات المتعاقبة العجز التجاري طيلة عقدين وهي على بينـة من أن نسبـة الصادرات للواردات تتراجع سنة بعد سنة وهي لم تتعد عتبة الـ25%، الأمـر الـذي يتطلب علاجاً منذ زمن. لكن ظلت تراقب هذا الوضع دون اكتراث. وحين نلفت انتباههم على أن لبنان يعتمـد سياسة الحماية وحتى الاحتكار ونسوق لهم أمثلة كالنقابات الملزمة وطيران الشرق الأوسط ومصانع الأسمنت والوكالات الحصرية لا نسمع أي جواب.
حادي عشر: أي مشروع إنتاجي جدي وسليم يجب أن يبدأ بدراسة جدواه الفنية والاقتصادية ثم يدخل مراحل التنفيذ من البنية التحتية إلى التمويل إلى إيجاد الكوادر البشرية إلى تدريبها إلى البدء بالإنتاج والمُضي في تحسين النوعية وتخفيف الهدر والكلفة إلى المنافسة إلى إيجاد الأسواق إلى الحصول على شهادات الكفاءة الإنتاجية والسلامة. كل هذه الأمور تتطلب استقراراً في السياسة الاقتصادية وعدم مفاجأة المستثمر بالقوانين أو القرارات المغايرة التي بني عليها دراسته.

عشرون سنة من الخطأ الفادح في إدارة الشأن الاقتصادي اللبناي تعـدّ جريمة لا تغتفـر اقترفتها الحكومات المتعاقبة منذ 1990. ذلك لأن خسارة هذا الردح من الزمن بعد خسارة 15 سنة من الحرب الأهلية هي خسارة جسيمة لا تعوّض.

خبير ومهندس زراعي