قال لـ"الاقتصادية" محللون ماليون "إن التراجعات السعرية في أسعار الذهب مؤقتة"، عادّين الانخفاض الحالي في سعر المعدن النفيس هو عكس المنطق الاقتصادي، حيث تبدو الظروف مواتية لارتفاع الذهب الذي يعد ملاذا آمنا في أوقات الأزمات، إضافة إلى خفض معدلات الفائدة من قبل البنوك المركزية، مضيفين أن "توترات الأسواق الراهنة بفعل تفشي وباء كورونا دفعت بالمستثمرين إلى الاحتفاظ بأموالهم نقدا".
ولا يزال الاقتصاد العالمي تتزايد معاناته يوما بعد آخر بسبب جائحة كورونا، ويوما بعد آخر تتفاقم الخسائر المالية، ويرتبك المشهد الاقتصادي أكثر فأكثر.. أحد أبرز الارتباكات الراهنة التي يتوقع أن تترك بصمات سلبية على النشاط الاقتصادي في مرحلة ما بعد "كورونا" يكمن في سؤال واحد: إلى أين يجب أن يفر المستثمرون بأموالهم، وما الملاذات الآمنة التي يجب أن يستثمروا أموالهم فيها الآن، استعدادا لتحقيق المكاسب لاحقا، وإعادة ضخ أرباحهم في العجلة الاقتصادية لضمان توسيع النشاط الاقتصادي، وتوظيف مزيد من الأيدي العاملة تفاديا لارتفاع معدلات البطالة والتضخم، ولتحقيق معدلات نمو تضمن أن تسير العجلة الاقتصادية ولو ببطء وتردد في المرحلة الأولى بعد انتهاء تلك الجائحة؟
إذن إلى أين يجب أن يفر المستثمرون؟ في البداية سادت قناعات عززها الواقع بأن الوقت ليس وقت أسواق المال وعالم الأسهم، فالأسواق العالمية تعرضت بفعل فيروس كورونا لهزة تلو الأخرى، وخسرت أسواق المال مئات مليارات الدولارات وعشرات التريليونات من الدولارات خلال أسابيع معدودة، وبدا أن البديل المتاح للمستثمرين حينها أن يلجأوا بأموالهم واستثماراتهم إلى الذهب ويحتموا بعالم المعادن النفيسة، فالذهب سيد الملاذات الآمنة في أوقات الأزمات، والأكثر موثوقية في فترات الاضطرابات.
بدا الأمر على هذا النحو منطقيا وواقعيا، وبالفعل ارتفع سعر الذهب ولمع في سماء المعادن، مع زيادة الطلب عليه، لكن فجأة ودون سابق إنذار اهتزت الصورة، وارتبك المشهد وترنح، لكن دون أن ينهار ويتهاوى، فأسعار المعدن الأصفر انخفضت من نحو 1700 دولار للأونصة قبل أيام، إلى نحو 1500 دولار للأونصة.
لماذا حدث ما حدث، ولماذا فقد الذهب بريقه، ولماذا تراجعت أسعار المعادن النفيسة، وهل نحن أمام ظاهرة مؤقتة أم أن الوضع سيزداد سوءا في الأسابيع المقبلة؟
في الواقع، كانت الإجابات التي حصلنا عليها من عدد من الخبراء في مجال الذهب والمعادن النفيسة
غريبة، ولا تبدو للوهلة الأولى متفقة مع مبادئ علم الاقتصاد وحركة السوق التقليدية، لكنها أكثر اتفاقا مع السلوك الإنساني في لحظات القلق العظيم والخطر الداهم.
إيفلين فايث الخبيرة الاستثمارية تشير إلى أن أسعار الذهب شهدت تراجعا يوم الإثنين الماضي بنحو 5.1 في المائة إلى أدنى مستوى منذ عام 2009، وفي اليوم التالي هبطت الأسعار 3 في المائة، وواصلت المعادن النفيسة خسائرها، وبدأ المستثمرون في التخلص السريع من معظم الأصول وتخزين الأموال نقدا،
ومن ثم فإن الخبيرة الاستثمارية تعد ما يحدث الآن يسير عكس المنطق الاقتصادي، فالأوضاع الاقتصادية تتسم بالقلق والتوتر وتعهدات الحكومات بضخ حزم مالية ضخمة للحد من الخسائر الاقتصادية لم تجد الأصداء المتوقعة في الأسواق حتى الآن، وأسعار الفائدة تقترب من الصفر، وفي الظروف العادية كان ذلك كفيلا بأن تحلق أسعار الذهب في الفضاء، وأن تقفز أسعار المعادن النفيسة إلى مستويات غير مسبوقة.
لكن بالنسبة إلى إيفيلين فإنه لا يمكن تفسير هذا الوضع إلا بتفضيل الجميع في تلك اللحظة الاحتفاظ بأموالهم نقدا، ربما لتوقعات بأن الوضع الاقتصادي سيصاب بمزيد من التراجع، وأسعار الأصول المالية - ومن بينها الذهب - ستنخفض مستقبلا إلى مستويات متدنية ومن ثم سيكون من الأجدى البيع الآن والشراء لاحقا.
وتوضح الخبيرة الاستثمارية لـ "الاقتصادية"، أنه "يمكننا القول إن هناك غيابا للسيولة المالية، إلا أن هذا لا يعني أنه لا توجد أموال لدى المستثمرين أو الأسر للاستثمار، لكن غياب السيولة هنا يعني حدوث انخفاض شديد في النشاط الاقتصادي، فهناك قليل من المشترين الحقيقيين، أما البائعون فلا يرغبون أيضا في البيع".
وتبدو وجهة نظر صامويل سميث الخبير المالي في بورصة لندن قريبة من وجهة النظر تلك، ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن البلاتين والفضة خسرا 6 في المائة أما البلاديوم فتراجع 4 في المائة، والمعادن الصناعية خرجت من هذا السباق بوصفها الخاسر الأكبر".
ويعتقد صامويل أننا أمام لحظة غريبة في الاقتصاد العالمي، فانخفاض أسعار الذهب والمعادن النفيسة لا يمكن تفسيره إلا بأنه لا توجد رغبة في الشراء، والسبب أن كثيرا من المستثمرين في مجال الأسهم يجبرون على بيع الذهب لديهم لتغطية خسائرهم في الأسهم"، لافتا إلى أن تدني ثقة المستثمرين بالأسواق ظهر في تراجع الحيازات في أكبر صندوق لتداول الذهب بنسبة 0.2 في المائة.
جزء آخر من أسباب تراجع أسعار الذهب وعديد من المعادن سواء النفيسة أو الصناعية يعود بصفة عامة إلى أن طلب المستثمرين على المعادن خاصة الصناعية كان يتأرجح بفعل زيادة الإمدادات في الفترة السابقة لظهور فيروس كورونا، في الوقت الذي تبنى فيه القطاع الصناعي والاستثماري موقفا حذرا بسبب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وأدى تفشي الوباء إلى تقويض طلب المستثمرين على عديد من المواد من بينها المعادن.
إلا أن بعض المحللين يشيرون إلى أنه على المدى الطويل، فإن الذهب سيكون في وضع تصاعدي خاصة مع مواصلة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة، فعلى الرغم من انخفاض أسعار المعدن الأصفر في الأيام الأخيرة، إلا أن متوسط الارتفاع السعري بلغ 4 في المائة منذ بداية العام، وسط توقعات ببلوغه 1800 دولار للأونصة في الـ12 شهرا المقبلة.
من جهته، يعتقد الدكتور آندروا دين أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة شيفيلد أن قوانين العرض والطلب ستسود في نهاية المطاف.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، أن "التراجع الراهن مؤقت، فعديد من مناجم المعادن في البرازيل وإفريقيا توقف عن الإنتاج أو في طريقه إلى التوقف عن الإنتاج، كما أن عديدا من معامل صهر المعادن في أوروبا توقف عن الإنتاج، والمعامل الصينية - رغم انحصار الوباء في الصين - لم تعد إلى العمل بكامل طاقتها بعد، ولهذا يتوقع انخفاض العرض في الفترة المقبلة، وهذا سيؤدي إلى تحسن ولو طفيف في الأسعار".
ومع هذا، يمكن القول بكثير من الثقة إن الهزة التي تعرضت لها أسواق الذهب والمعادن النفيسة لا تزال متواضعة مقارنة بالانهيار الكبير في أسعار الأسهم نتيجة "كورونا"، فقد انخفضت أسعار الأسهم بما يزيد على 20 في المائة منذ تفشي الفيروس بينما لم تنخفض أسعار المعادن إلا بنحو 10 في المائة، وحتى في ذروة تفشي الفيروس في الصين التي تعد منتجا ومستهلكا لنصف المعادن في العالم لم تنهر الأسعار تماما.
ويبقى السؤال، ما المجال الأفضل للاستثمار في الوقت الراهن؟ يعد الدكتور آندروا سميث أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة أبردين الاحتفاظ بالنقد في الوقت الحالي خطوة إيجابية، لكن يجب ألا تدوم طويلا، ويفسر ذلك لـ"الاقتصادية" قائلا "ربما يكون بيع الأصول للاحتفاظ بأثمانها نقدا خطوة إيجابية على المستوى الفردي، لكنها بلا شك ستصيب الاقتصاد الدولي بحالة من الركود، كما أن استمرارها لفترة طويلة يعني خسارة الأرباح الممكن تحقيقها من العملية الاستثمارية، والأمل الوحيد هو أن يقتنع كبار المستثمرين بأن الأسعار لن تواصل الانخفاض أكثر من ذلك، فيقوموا بعمليات شراء كبيرة في أسواق الأسهم والمعادن النفيسة، مستفيدين من انخفاض أسعار الفائدة إلى ما يقترب من الصفر، وهو ما يمكن أن ينعش الاقتصاد العالمي مجددا".