أثارت جائحة كورونا تساؤلات حول مدى قدرة الاقتصاد التركي على مواجهة تداعيات الفيروس، بعد أن بلغت أعداد الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا في تركيا 136 ألف شخص، ولامست حالات الوفيات سقف 3689 شخصا.
ويقول محللون اقتصاديون إن أنقرة سعت إلى التغطية على تردي المنظومة الصحية من خلال حملة دعائية عالمية بأنها تتمتع بقدرات اقتصادية قوية تمكنها من تصدير الاحتياجات الطبية للآخرين، ومن بين هؤلاء الآخرين المملكة المتحدة.
لكن الصحافة البريطانية سريعا ما وضعت منصات تركيا الإعلامية في حرج شديد، عندما كشفت أن ما تم شراؤه من الجانب التركي من احتياجات طبية للخدمات الطبية الوطنية البريطانية لا يفي بمعايير السلامة، وإنها فشلت في اختبارات الجودة، ما يجعل استخدامها خطرا على الجهاز الطبي البريطاني.
ويعد القطاع الطبي التركي أحد المفاخر التي يتشدق بها الحزب الحاكم في تركيا، عبر الادعاء بأنها وليدة الإصلاحات التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتضمنت توفير رعاية صحية شاملة من خلال نموذج متكامل لطب الأسرة، لكن الأرقام المتاحة ربما لا تستقيم كثيرا مع تلك المزايدات، فتركيا متخلفة عن جميع دول منظمة التعاون الاقتصادية والتنمية فيما يتعلق بعدد الأطباء، ومقارنة بإيطاليا سنجد أن إيطاليا لديها ضعف الأطباء وثلاثة أضعاف الممرضات بالنسبة لمجموع السكان في تركيا.
وفي الواقع فإن تدخل السياسة في المجال الطبي التركي كان عاملا في تدهور أداء القطاع خلال أزمة فيروس كورونا، فمنذ حملة التطهير التي جرت في جميع قطاعات الدولة في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة 2016، قامت الحكومة بفصل 150 ألف موظف مدني، من بينهم 15 ألفا من العاملين في مجال الرعاية الصحية، بعضا منهم من أنبغ العقول التركية في مجال الفيروسات.
لكن الضجيج الإعلامي التركي بشأن "الأداء المميز" في مواجهة كورونا، وبقدرة الاقتصاد على مواجهة التحديات، أثارت الفزع في صفوف المستثمرين بشأن القدرة الحقيقية للاقتصاد التركي على مواجهة التحديات في مرحلة ما بعد كورونا، حيث تراجعت قيمة العملة التركية إلى أدنى مستوى لها في التاريخ أمام الدولار، وخسرت 16 في المائة من قيمتها منذ بداية العام الجاري لتبلغ نحو 7.2 ليرة أمام الدولار.
ويقول لـ"الاقتصادية" جيفرسون سيليسبري الخبير الاقتصادي في شؤون اقتصادات الشرق الأوسط، "إن أربعة عوامل وراء انهيار سعر الليرة التركية أمام الدولار تمثلت في ارتفاع معدلات التضخم التي بلغت 11.9 في شهر آذار (مارس)، وتزايد البطالة، وبطء النمو الاقتصادي، وزيادة عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا التي تعد الأكبر في الشرق الأوسط.
وأضاف أن تهاوي سعر العملة دفع البنك المركزي التركي إلى سحب ملايين الدولارات من احتياطياته من العملات الأجنبية لشراء الليرة لدعمها، وللحيلولة دون مزيد من الانهيار أمام الدولار، ووصل الحد إلى فرض قيود جديدة على الأجانب الذين يجرون معاملات بالعملة التركية لمنع المضاربة".
ويضيف "بالطبع تلك الخطوات عززت مخاوف السوق وجاءت بنتائج عكسية، فالفزع الذي انتاب البنك المركزي التركي كشف أن الإمبراطور ليس لديه ما يكفي من الملابس لتغطية برد العجز في الأرقام المالية، ولذلك المتوقع أن تشهد الليرة مزيدا من الانخفاض أمام الدولار".
وكان المحللون في بنك MUFG الياباني توقعوا انخفاض الليرة التركية بنحو 18 في المائة في غضون عام من الآن، ليصل سعر الصرف إلى ثماني ليرات لكل دولار، مقارنة بثلاث ليرات في أيلول (سبتمبر) 2016.
وفي ضوء تلك التطورات يشهد إجمالي احتياطيات العملات الأجنبية لدى البنك المركزي التركي تآكلا سريعا، فمن حد أقصى وصل إليه الاحتياطي التركي في نهاية العام الماضي وقدر رسميا حينها بـ81.2 مليار دولار، انخفض في 30 نسيان (نيسان (أبريل) إلى 51.5 مليار دولار.
ومع ذلك فإنه وفقا لتقديرات نشرها وكيل وزارة الخزانة السابق مفي إيجلميز فإن "صافي" احتياطيات النقد الأجنبي لدى المركزي التركي تقترب من 16.2 مليار دولار فقط، وإن هذا الرقم يشمل مقايضات العملات مع البنوك المحلية، وبمجرد استبعاد تلك المقايضات فإن صافي احتياطي العملة الأجنبية لدى تركيا يدخل في المنطقة السلبية عند ناقص 13.4 مليار دولار
لكن تحميل الجائحة كل مآسي الاقتصاد التركي الحالية، يتضمن الكثير من عدم العدالة والموضوعية في التحليل، ويتجاهل كثيرا من المؤشرات الاقتصادية السلبية التي برزت قبل تفشي فيروس كورونا.
فالاقتصاد التركي كان تحت ضغط متصاعد قبل اكتشاف أول حالة إصابة بفيروس كورونا في تركيا، فالعملة التركية في حالة من الضعف منذ عامين، والديون متصاعدة والاحتياطيات الأجنبية تتقلص، والبطالة بلغت 14 في المائة في كانون الثاني (يناير) الماضي، وقبل اتخاذ أي إجراءات بشأن سياسة الإغلاق.
وتقول لـ"الاقتصادية" لورين جورج الاستشارية المصرفية السابقة في بنك إنجلترا، "الاتحاد الأوروبي يتوقع ركودا اقتصاديا لمدة عام في تركيا، وانهيارا حادا في القطاع السياحي الذي بلغت عائداته العام الماضي نحو 35 مليار دولار، ما سيزيد الضغط على الليرة الهشة ومن ثم تنامي معدلات التضخم".
وتعتقد لورين جورج أن الجانب الأمريكي يسعى لأن ينأى بنفسه عن تركيا حاليا، مضيفة "المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عقد اتفاقية مبادلة للدولار مع بعض الاقتصادات الناشئة في آذار (مارس) الماضي مثل المكسيك والبرازيل، لكن تركيا لم تكن ضمن مجموعة الدول تلك، حيث إن الفيدرالي الأمريكي يتخوف باختصار من فقدان البنك المركزي التركي استقلاليته وأنه بات تحت هيمنة الرئيس أردوغان، وهذا يعني تقويض ثقة المستثمرين باستقلالية السلطة النقدية".
بالطبع يواصل الرئيس التركي ووزير المالية والخزانة بيرات بيرق المتزوج من ابنة أردوغان، الترويج إلى أن كل شيء على ما يرام، وأن الاقتصاد سيحقق نسبة نمو تقدر بـ5 في المائة هذا العام رغم الجائحة، ورغم انخفاض قيمة العملة بنحو 20 في المائة منذ بداية العام. وكذلك رغم 170 مليار دولار من الديون التي يتعين سدادها أو تجديدها خلال الـ12 شهرا المقبلة.
ويعد الدكتور ك. ريتشارد أستاذ الاقتصاد المقارن في جامعة كامبريدج أن قضية الديون التركية كفيلة بتدهور الاقتصاد برمته، وأن الخطر ازداد نتيجة جائحة كورونا العالمية، والحديث المتزايد حاليا بانفجار قضية الديون العالمية في أعقاب الخلاص من الجائحة يجب أن تأخذه تركيا على محمل الجد.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن الدين السيادي تم إبقاؤه منخفضا بعديد من الأساليب، حيث سعت تركيا إلى توفير مشاريع البنية التحتية الكبيرة عبر اتحادات مصرفية بضمانات من البنك المركزي تتعلق بالإيرادات المضمونة، ولكن ما لم يكن هناك تدفق جديدة للعملة الأجنبية في الاقتصاد التركي فإن البلاد قد تصطدم بالجدار ولن يكون أمامها إلا الاقتراض من صندوق النقد الدولي.
حتى منتصف نيسان (أبريل) الماضي، واصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفضه للاقتراض من صندوق النقد الدولي، وأكد أن تركيا ستواصل الصمود، وهو ما يشك فيه كثير من الخبراء الاقتصاديين، نظرا للضغوط الراهنة على الليرة، التي تضع بدورها ضغطا إضافيا على الشركات غير المالية التركية التي تعاني ارتفاع القيمة الإجمالية لقروضها بالعملات الأجنبية التي بلغت 300 مليار دولار أي ثلث القروض قصيرة الأجل، ونتيجة لتفاقم الأزمة الاقتصادية في تركيا واستمرار تقلص إيرادات الشركات، فإن خدمات الدين مقيمة بالليرة التركية زادت بنحو 20 في المائة خلال الـ12 شهرا الماضية.
مع هذا يعتقد الخبير السابق في البنك الدولي ميتشل فيث، أن تركيا تمثل نموذجا لتدمير الاقتصاد الوطني ذاتيا.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "البنية الأساسية للاقتصاد التركي جيدة، ويمكن البناء عليها وتطويرها، لكن القرارات تتخذ على أساس سياسي وليس على أساس المنطق الاقتصادي، كما أن المحاباة والفساد المالي والاقتصادي للحزب الحاكم، ومجموعة رجال الأعمال المحيطة بأردوغان، ورغبة الرئيس التركي في التوسع الخارجي بما يتطلبه ذلك إنفاق سخي لكسب الأنصار، وما يوجده ذلك في الوقت ذاته من توتر في العلاقات التجارية والاستثمارية لدول الإقليم، يجعل من المشكوك فيه أن يمتلك الاقتصاد قدرة حقيقية للنمو".
ومن الواضح أن القدرة النارية للاقتصاد التركي تتآكل، حيث يتضح ذلك من هزالة حزمة التحفيز الاقتصادي التي رصدها الحكومة التركية للخروج من التداعيات السلبية لفيروس كورونا، إذ رصد 15 مليار دولار فقط، أي 1.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أقل من البرازيل على سبيل المثال التي بلغت فيها حزمة الإنقاذ 3.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ومع إدراك رجال الأعمال الأتراك أن حزمة التحفيز لا تكفي، لم يكن أمامهم سوى مطالبة الرئيس بإعادة النظر فيها، ومع تيقن أردوغان أنه لا يمكنه القيام بأكثر من ذلك لم يجد أمامه من سبيل سوى التوجه إلى المواطنين مطالبا إياهم بالتبرع لإنقاذ الاقتصاد، بل خصم جزء من رواتب الموظفين العمومين للهدف ذاته.