خبر عاجل

عاصفة الحزم ... من الضرورات الاستراتيجية إلى النتائج السياسية

تاريخ النشر: 08 أبريل 2015 - 09:54 GMT
البوابة
البوابة

ما كان ممكنا ل 'عاصفة الحزم' سوى أن تهب، وما كان للمشاركين في القمة العربية سوى أن يتوافقوا على ما كانت مصر قد دعت إليه قبل أسابيع فقط من ضرورة بناء قوة عسكرية عربية مشتركة، تعمل كذراع عسكرية لجامعة الدول العربية، وتمثل تفعيلا لاتفاقية الدفاع المشترك. ما كان للعاصفة سوى الهبوب لأن الأمة كانت تضرب في إحدى أكثر بقاعها على صعيد الأهمية الاستراتيجية لدول الخليج، خصوصا السعودية، وكذلك لحركة التجارة الدولية العابرة لباب المندب، خصوصا لمصر وقناة السويس، وذلك بعد أن كانت ضربت في غير مكان، وصبرت قدر ما تستطيع أن تصبر، حتى لم يعد هناك محل لحصار، ولا مجال لصبر، وبات الظهر مكشوفا تماما، فيما تتمدد إيران بنجاح، وتدير عمليات اختراق سياسي بإبهار واضح، في مسعاها الحثيث لمراكمة أوراقها في معركتها الديبلوماسية مع الولايات المتحدة، والتي كادت تكسبها بالنقاط عبر الاتفاق النووي، والذي يتوازى مع شراكة البلدين في الحرب ضد 'داعش' العراق.

وما كان للقادة العرب في شرم الشيخ سوى الموافقة على القوة العسكرية المشتركة، لأن الواقع سبقهم إليها، فلم يكن أمامهم سوى الالتحاق به، إما سريعا كما كان البعض قد قرر بحسم، خصوصا مصر والسعودية والإمارات، أو على مهل وببطء، أو حتى بتردد وتحفظ. لقد اكتشف الجميع فجأة أن لا طريق آخر للسير إلى أي شاطئ ولو بعيدا من دون هذا القرار، إذا ما أرادوا جميعا صون نظام إقليمي بات مشرفا على الانهيار، وحفظ ماء الوجه لأمة اقتربت سياسيا من حال الاحتضار، بعد أن تحولت إلى جسد متهالك، ينقره الطير، وتتكالب عليه الجوارح في الإقليم والعالم، لتنال منه قدر ما تستطيع.

كإنسان عربي، أشعرتني العاصفة بنشوة من رأى أمته تستفيق من سباتها، وتلعق جراحها، قبل أن تقف على قدميها وتزمجر فيستمع الآخرون إليها. فعلى رغم تغيرات حدثت في طبيعة بناء القوة العالمية، وأحاديث دارت حول تراجع المكون العسكري لمصلحة غيره من المكونات الاقتصادية والسياسية والإعلامية وغير ذلك، تبقى قوة السلاح هي الرقم الصعب في صوغ أدوار الأمم وصناعة التاريخ، ناهيك عن حفظ البقاء. قد تكسو السلاح طبقات رقيقة من باقي عناصر القوة، ولكن جميعها يبقى مثل طبقات المطاط على معصم الملاكم، تحميه وتمتص عنه، ولكنها ليست أبدا بديلا منه.

وعلى رغم أن الإفراط في النزعة العسكرية، واللجوء إلى عسكرة الدول يبدو أمرا غير مطلوب، مرهقا ومعيقا، على منوال النموذج العراقي الصدامي، فإن الإفراط في المسالمة، والإصرار على تجنب استعمال السلاح لفترات طويلة، على رغم ضغوط بادية، إنما يدفع إلى الإرهاق ذاته، والإعاقة ذاتها ولو من طريق آخر.

ولعل هذه هي حال العرب المعتدلين في العقد الأخير، عندما وقف اعتدالهم المفرط دون تلويحهم بخيار السلاح، فطمع فيهم كل من أراد، خصوصا على أطرافهم دول حضارات قديمة، وريثة إمبراطوريات عتيقة، لها مطامع في جغرافية العرب على رغم الشراكة في العقيدة، ولها مطالب في دولهم على رغم الجيرة في التاريخ، ولها مطامح في إراداتهم على رغم الوحدة في الحضارة، ناهيك عن قوة أفريقية قديمة في الجنوب لا تشاركنا تلك الانتماءات، وأخرى في قلب المشرق، جديدة بالجغرافية، قديمة بأيديولوجيتها، ونزوعها إلى بناء دولة عنصرية دينية تقوم على النقاء الديني، ما يجعل منها تجسيدا نموذجيا لمفهوم العدو. والمثير أن التردد العربي المزمن في استخدام القوة أو التلويح بها، لم يكن مبررا بحال، ولا تحكمه سوى عوامل نفسية في غالبية الأحوال. فمن منظور توازن القوى، لا تملك دولة كإيران نصيبا وافرا من التفوق على جيرانها، فالسعودية ودول الخليج مجتمعة تكاد تمتلك ما يعادلها من قوة، وتتفوق عليها في بعض مجالات التسليح، الجوي بالذات، خصوصا أنها بلد محاصر تماما منذ أكثر من عقد، يعاني إنهاكا ماديا كبيرا، ويقتصر تسليحها على التكنولوجيا الروسية.

أما مصر وحدها، ككتلة حيوية، وقدرة عسكرية، وخبرات قتالية فتعادل إيران مرة ونصف المرة، ما يعني أن العرب المعتدلين في مصر والخليج يمثلون ضعف القوة الاستراتيجية الإيرانية، إذا ما أهملنا موقتا قدرة العرب المغاربة، ناهيك عن قدرة دول المشرق المنهارة، والتي استحالت ملعبا للصراعات بدلا من كونها فاعلا فيه. ما يعني أن العجز العربي عن استخدام القوة نفسيا، وليس عسكريا، وعندما تجاوز هؤلاء الحاجز النفسي انفتح الطريق إلى هذا الخيار، الذي اكتشفوا أنه ممكن، بقدر ما أنه ضروري لأي كيان يرغب في حفظ بقائه، ورعاية مصالحه.

وظني هنا أن ما بعد العاصفة سيكون مختلفا عما قبلها، بدرجات تتوقف على مسارات الحوادث وتحولات الحرب، فاستدعاء الخيار العسكري، وإبراز القدرة على الحسم سوف يعيد كثيرين إلى طاولة العرب، سواء كانوا من الأصدقاء أو الأعداء. الأصدقاء احتراما وتقديرا، وربما كانت هذه هي حال الأميركيين الذين كانوا اطمأنوا إلى صداقة العرب المعتدلين، وسلكوا وفق المثل الصيني، فلم يعودوا راغبين في دفع ثمن سلعة امتلكوها بالفعل، ظنا منهم أن عرب الاعتدال لا يملكون سوى أن يكونوا أصدقاء، ولو لم نمنحهم حقوق الصداقة. أما الأعداء فرهبة وتوقيرا لمن يستطيع أن ينال منهم، أو يجبرهم على دفع ثمن عدائهم، فالقوة في دنيا السياسة، كالهواء في عالم المناخ، كلاهما يتحرك في الفراغ، ولا يتوقف إلا بالصد من قوى مناوئة، السلاح الفعال هنا، وكتل الهواء الضاغطة هناك.

ولا يعني ذلك لعرب الاعتدال سوى تأكيد سنة سياسية مألوفة، فمن يملك القدرة على الحرب هو من يتمتع بثمرة السلام، والمؤكد أن 'عاصفة الحزم' ستعيد إلى طاولة الحوار أولئك الذين كانوا أداروا الظهور لها، وربما دفعت أميركا أوباما إلى إعادة تثمين أولئك العرب الطيبين، على نحو ربما ترجح معه كفتهم في مواجهة البازار الإيراني.

ولا تعني مشاعر النشوة هذه، غيابا مطلقا لمشاعر الخوف والقلق، فثمة قلق من تنامي أجواء صراع ديني مذهبي - طائفي، سني - شيعي، تجرى وقائعه على الأرض العربية، وتنهدم فيه المدن العربية، ويستنزف فيه العمران العربي. وثمة خوف من أن يستحيل التدخل السريع تورطا طويل الأمد، يزيد من جرعة الدماء، ويهتك نسيج الأوطان، ويفتك بمعمار الدول.

فالمؤسف هنا، أن إيران تحاربنا بالوكالة، وتقتلنا بأيدينا، على أراضينا، وذلك عجز في السياسة العربية، لا يعوضه أعتى أنواع السلاح. لقد فقد العرب تقريبا دمشق وبغداد، عاصمتي الحضارة العربية لأكثر من سبعة قرون مجيدة، أعني دمشق وبغداد كمدينتين للتاريخ والآثار والحضارة السابقة على الإسلام كما اللاحقة له. قد يستطيع العرب استعادتهما يوما، وربما إعادة بنائهما من جديد، لكن شيئا ما قد غاب، رحل في الذاكرة والخيال وأظنه لن يعود، ولا نود أن نفقد أيضا صنعاء وعدن.

لذا، يتعين على دول التحالف العربي الاضطلاع بأمرين أساسيين:

أولهما هو إعادة تعريف الصراع سياسيا لا مذهبيا، بحيث يصبح التدخل العسكري، رفضا لانقلاب جماعة سياسية معارضة على سلطة سياسية حاكمة تتمتع بالشرعية، وليس باعتباره حربا مذهبية من دول سنية ضد أقلية شيعية، لأن في التعريف الأخير تأجيجا لمشاعر طائفية عميقة. صحيح أن ثمة شعورا باطنا لدى الطرفين المتصارعين بمحورية العامل المذهبي، والدور الإيراني في ما يجري، ولكن، على العرب الكشف عن حقيقة الدور الإيراني، أي نوازعه الإمبراطورية، حيث الرغبة القومية - الفارسية في الهيمنة على مقادير المنطقة القومية - العربية. فالتعريف القومي للصراع إنما يحشد مشاعر العرب خارج اليمن، ويكسب قلوب الزيديين من غير المنتمين للحوثيين، بل يدغدغ مشاعر الحوثيين أنفسهم، فلا يمانعون في الجنوح للسلم، ولا يشعرون بأن عودة التزامهم بالشرعية بمثابة هزيمة مطلقة، ما يقصر من أمد الحرب. وثانيهما أن يستعيد العرب مسألة السياسة، بمجرد أن يتوقف السلاح، فالواجب على دول التحالف العربي الانفتاح الكامل على الحوار في تلك اللحظة التي تشعر فيها دوله بأن المعسكر الحوثي، صار راغبا حقا فيه، إذ لا توجد نهاية لصراع عسكري إلا بتتمة من تفاوض سياسي يعيد صب وقائع الأرض في خرائط السياسة، ولكن مع عدم السماح مطلقا بوجود إيران كطرف في التفاوض، فالفرقاء جميعا عرب، وتعريب القضية هو الشرط الأول للنجاح السياسي للعاصفة، بل هو ثمرتها الكبرى.

اقرأ ايضا:

 
 

الاشتراك

اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن