سعد محيو
ماذا وراء التسريبات الأمريكية الأخيرة التي تحدثت عن تغيير في سياسات واشنطن إزاء سوريا؟ دبلوماسي أوروبي في بيروت أجاب على هذا السؤال بالجُملة المعبّرة التالية: "كل شيء سيتغيّر في هذه السياسة، لكنها باقية على حالها".
لوهلة، قد يبدو هذا لغزا. إذ كيف يتعايش التغيير والجمود على سطح واحد؟ بيد أن هذا التناقض اللفظي الظاهري يتبدّد حين يُدرك المرء أن إدارة أوباما، ومنذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة السورية قبل ثلاث سنوات ونصف السنة، اعتبرت أن المذبحة السورية المفتوحة لاعلاقة لها بالأمن القومي الأمريكي ولا بالمصالح الأمريكية، على عكس أزمة العراق بثروته النفطية الهائلة وموقعه الإستراتيجي بين إيران ودول الخليج.
مُراوحة إلى أجل غير محدد
من هذا المنظور، رفض الرئيس أوباما منذ البداية التدخل في سوريا، حتى حين خرق الرئيس بشار الأسد الخط الأحمر الأمريكي المتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية، وحتى حين وصّفت الأمم المتحدة الأزمة السورية بأنها "أضخم كارثة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية". وهذا الموقف "المبدئي" لم يتغيّر طيلة الحقبة السابقة قيد أنملة. والأرجح أنه لن يتغيّر الآن.
الأمر الوحيد الذي قد يشهد تحولاً ليس هذا الموقف "المبدئي"، بل التوجُّه "التكتيكي" الأمريكي الخاص بالمعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش سابقا) في العراق أولاً وأساسا. فقد تطلبت هذه المعركة شن غارات جوية كثيفة على مواقع داعش في بلاد الرافدين، ثم تبيّن أن هذا ليس كافياً طالما أن خطوط إمداد هذا التنظيم موجودة في سورية، فجرى تمديد الغارات إلى هذه الأخيرة.
بعض المحللين اعتقد أن الغارات الجوية في سوريا ستجر وراءها حتماً تدخلاً أمريكياً كثيفاً يُعيد خلط الأوراق في هذا البلد، خاصة وأن مسؤولين أمريكيين أعلنوا قبل أيام أن أوباما سيُغيّر بالفعل سياسته السورية، بعد أن بات واضحاً أن تدمير جسم "داعش" في العراق لن يحقق النجاح للحملة العسكرية الأمريكية طالما أن رأسها لايزال سليماً ونشطاً في مدينة الرقة السورية.
بيد أن أوباما نفى بنفسه هذا الإحتمال، حين تراجع خلال قمة مجموعة العشرين الأخيرة عن هدفه المعلن باسقاط الرئيس السوري، واستبدل هذه الصيغة بأخرى تنفي نيته "التحالف مع الأسد" ضد داعش "لأن هذا الأخير فقد شرعيته". وهذا عنى، بكلمات أخرى، أن الرئيس الأمريكي لايريد لا إسقاط الأسد ولا الإعتراف بشرعيته، بل المراوحة في المكان نفسه إلى أجل غير مُحدد.
قراءات مغلوطة
قد يقال هنا أن هذا موقف شخصي من الرئيس الأمريكي، خاصة وأن كبار المسؤولين الأمريكيين السابقين، من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إلى وزير الدفاع ليون بانيتا، اتهموا أوباما بـ"التردد" وحتى بـ" التخاذل" في سوريا. وقد يقال أيضاً أن سيطرة الجمهوريين على مجلسي الكونغرس بعد انتخابات نوفمبر الأخيرة ستجبر الإدارة الأمريكية على اتخاذ موقف أكثر جذرية في بلاد الشام.
بيد أن هذه قد تكون قراءة مغلوطة للأحداث.
فلا البنتاغون ولا "السي. أي. آي" (وهما الجهازان المعنيان أساساً بالأزمة السورية) يمتلكان خططاً غير خطط البيت الأبيض في سوريا. وهذا أمر تأكد مُجددا حين نشرت "واشنطن بوست" (14 نوفمبر 2014) تقريراً مفصلاً عن طبيعة "التغيير" الذي تنوي الولايات المتحدة إدخاله على سياستها السورية.
جاء في هذا التقرير أن إدارة أوباما أعدت خلال اجتماع كبار المسؤولين الأمريكيين قبل أيام خططاً لتصعيد دور السي. أي. آي في تسليح وتدريب المقاتلين السوريين، "كجزء من توجّه لتسريع الدعم السري الأمريكي لفصائل المعارضة المعتدلة، جنباً إلى جنب مع قيام البنتاغون بإقامة معسكرات تدريب خاصة به في الأردن وتركيا". بيد أن التقرير سارع أيضاً إلى القول أن هذا الخطة السرية الأميركية "لن تكون لها تأثيرات مهمة حيال مآل الصراع في سورية". لماذا؟
لأن السي. أي. آي" تحتاج إلى سنوات عدة لإعداد قوة مقاتلة يعتد بها (تقول الوكالة أنه تسعى لتدريب 5000 مقاتل في السنة)، ولأن وزير الدفاع الأمريكي تشاك هاغل قال في شهادة له قبل أيام من استقالته أن برنامج البنتاغون لتدريب المعارضة لن يبدأ قبل الحصول على التمويل من الكونغرس، مضيفاً أن الأمر قد يستغرق من 8 إلى 12 شهراً " لبدء إحداث فرق على الأرض".
لكن، حتى لو تمكّنت الولايات المتحدة من تجهيز قوة مقاتلة معارضة (كما تخطط) من 15 ألف مقاتل بالسرعة المناسبة، (على رغم صعوبة ذلك بعد أن ألحقت جبهة النصرة هزيمة مدوية بحركة حزم المدعومة من السي. أي. آي)، فإنها ستشرط عليها ألا تكون أولويتها مجابهة قوات الأسد، بل مقارعة داعش واستعادة الأراضي منها.
الجنرال الأمريكي جون ألن، منسق التحالف الدولي ضد داعش، أوضح هذه النقطة بجلاء حين قال الشهر الماضي لفضائية الجزيرة: "سيكون هناك قتال في سوريا لايمكن التنبؤ به بالضرورة. لكننا نأمل أن تتمكن وحدات المعارضة التي تدربها الولايات المتحدة من الصمود ضد جيش الأسد والنصرة والمجموعات الأخرى. لكن عليها أن تركز عملياتها الهجومية على داعش. إننا نتعامل مع هذه الأخيرة أولاً لأنه يتوجب علينا أن نفعل ذلك، فهي تشكل تهديداً لحلفائنا ولنا".
لعبة شطرنج معقدة
تحديد واضح؟ بالتأكيد. لكن هذه ليست نهاية اللامبالاة الأمريكية بالأزمة السورية. هناك أيضاً على الأرجح مصلحة أمريكية باستمرار هذه الأزمة. كيف؟
لقد ذُكِرَ أن أوباما قرر عدم قصف قوات الأسد إبّان أزمة الأسلحة الكيميائية، لأنه خشي أن تؤثر أي عملية عسكرية من هذا النوع على آفاق التسوية النووية مع إيران. كما قيل أيضاً أن إدارة أوباما تطل على الأزمة السورية على أنها جزء لايتجزأ من علاقاتها الجديدة مع طهران، على القدر نفسه تقريباً الذي تعتبر فيه مصير سوريا مرتبطا بمصالح إسرائيل الإستراتيجية.
كل هذا الذي قيل صحيح. لكن الصحيح أيضاَ أن واشنطن تستخدم في الوقت نفسه الورقة السورية للضغط على إيران. فالأزمة السورية تحولّت بالفعل إلى ما يُشبه الثقب الأسود لطهران، حيث أنها تبتلع كميات هائلة من الأموال الإيرانية لتمويل الجيش السوري وحزب الله والميليشيات الشيعية العراقية المقاتلة في العراق. وفي هذا الصدد، يُشير الباحث فؤاد حمدان إلى أن "الولايات المتحدة وحلفاؤها يتبعون استراتيجية النزف البطيء لإيران وحزب الله في سوريا التي أصبحت بمثابة فيتنام بالنسبة إليهم. بيد أن كل ذلك يتم على حساب الشعوب السورية والعراقية واللبنانية"، على حد قوله.
والآن ما هي الحصيلة؟ إنها واضحة، أو يفترض ذلك: لقد تحولت سوريا حسب المعطيات المتاحة إلى مجرد لعبة شطرنج تتصارع فوق رقعتها إيران والسعودية والولايات المتحدة وروسيا وبقية الأسراب الإقليمية والدولية. وهذا يعني أن هذه الأزمة الدامية لن تضع أوزارها إلا إذا تغيّرت موازين القوى في النظام العالمي الراهن، سواء باتفاق الأطراف الرئيسة فيه أو بحسم الصراع بينها. وهذا ما يجعل الأزمة السورية شبيهه إلى حد بعيد بالحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 سنة متصلة (1975-1989)، ولم تضع أوزاها إلا بعد أن بدأ الإتحاد السوفييتي يتراقص على شفير الإنهيار.
فهل يمكن القول اليوم بأن سياسة واشنطن السورية المستندة إلى "التغيير وإبقاء الأمور على حالها"، جزءٌ من لعبة الشطرنج المُعقّدة هذه؟ حتما.
* عن موقع "سويس انفو".