العميد الركن أحمد رحال
الهدنة المعلنة في جبهات قتال سوريا لم تكن من ضمن التفاهم الأمريكي_الروسي, وخطة العمل التي تم التوافق عليها ما بين الرئيسين “أوباما” و”بوتين” وفصل نقاطها كلاً الوزيرين “كيري” و”لافروف” لم تكن تضع في مفرداتها أي وقف لإطلاق النار, لكن من الواضح أن الهدنة كانت حادثاً طارئاً نجم عن الخلل والتغيرات الناجمة عن مستجدات العمل العسكري والتي أغضبت المملكة العربية السعودية وتركيا وأقلقت بعض دول الاتحاد الأوروبي التي تراوحت تهديداتها ما بين التدخل العسكري وبين مناطق آمنة وحظر جوي, فقصف الطيران الروسي والتوغلات التي قامت بها الميليشيات الإيرانية المدعومة بعصابات حزب الله وبقية المرتزقة الداعمة للأسد, ارتكبت مجازر لا يمكن السكوت عنها بحق فصائل الجيش الحر والمدنيين مع إصرار أمريكي على الاستمرار بإغلاق (صنابير) الإمدادات العسكرية للثوار.
التوافق الأمريكي الذي لم يٌعلن عنه لكن توضحت مفرداته من خلال تفاصيل العمل العسكري على الأرض وفي السماء السورية, والذي يقضي وحسب التحليلات إلى تعهداً روسياً (بوتينياً) بالإطاحة برأس “الأسد” مع المحافظة على المفاصل الأساسية للنظام, والتعهد أيضاً بطرد كل الميليشيات الإيرانية وأذرعها من داخل الأراضي السورية, مقابل تعهداً أمريكياً بتصفية الفصائل الأساسية والرئيسية للثورة السورية وخلال فترة زمنية لا تزيد عن الستة أشهر, وهذا الكلام لم نتجنى به على الوزير “كيري” بل خرج منه عفوياً وبلحظة ضعف عندما قال لبعض النشطاء السوريين خلال فعاليات مؤتمر ميونيخ: إن القصف الروسي الأسوأ لم يأت بعد, وأنه “علينا توقع 3 أشهر من الجحيم”, وتابع: سيتم اقتلاع المعارضة السورية خلال ثلاثة أشهر, وأما خروج الناطق باسم الخارجية الأمريكي لتبرير تلك التصريحات, فلم يكن موفقاً وغابت عنه المصداقية.
الإعلام المقرب من حزب الله وصف روسيا بالدولة “الغدارة” وأنها مقابل مصالحها كانت قد باعت “اليمن” بالسابق ومن قبله باعت “القذافي” واليوم تكمل الطريق بالتخلي عن “بشار الأسد”, وورد على صفحات إحدى الصحف المقربة من حزب الله القول: أن تلك الهدنة التي تجري فصولها ليست هدنة عسكرية بل هي جزءاً من اتفاق سياسي أمريكي_ روسي, وروسيا غدرت بنا لأن الروس خونة, وقال رئيس مركز الأبحاث الإستراتيجية في مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران علي أكبر ولايتي: إن الولايات المتحدة “ليس لديها نوايا حسنة من تأييد وقف إطلاق النار في سوريا” لكنها تسعى إلى تغيير الحكومة” السورية وبموافقة روسية.
عبر تلك المواقف يبرز الغضب الإيراني من أن “بوتين” يتاجر بكل الاستثمار الإيراني في سوريا الذي قامت به طهران على مدار الخمس سنوات المنصرمة, ويطيح بكل مصالحها, وإيران تشعر بالإهانة أن بوتين لم يكلف نفسه عناء إبلاغ حلفائه بمفردات الاتفاق الأمريكي_ الروسي, وأن إرسال وزير دفاعه “شويغو” إلى طهران كان ليس إبلاغاً بحيثيات الاتفاق بل طلباً (أوامر) بالالتزام بالهدنة, وبالتالي طهران تشعر أنها استثمرت بطواحين هواء والجانب الروسي هو من حصد الأرباح واستأثر بكل الورثة في سوريا بعيداً عن بقية حلفاء النظام.
لكن إيران تدرك كما روسيا أنهما لا يستطيعان الاستغناء عن بعض, فلا الجهود الجوية للطيران الروسي يمكن التقليل من شأنها في تثبيت وإبقاء نظام “الأسد” على حيز الوجود, ولا الدعم المادي وإمكانيات الميليشيات الإيرانية ومن يقاتل تحت رايتها يمكن الاستغناء عنه لتثبيت جهود الطيران الروسي على الأرض, لكن روسيا تقول أن ضرباتها الجوية تستثمرها إيران بمزيد من السيطرة على الأرض السورية وبالتالي فالضربات الجوية هي إنهاك روسي لتدعيم مصالح إيران.
السماء روسية والأرض لإيران
في جانب موازي فإن طهران وموسكو تحاولان التستر على الصراع الخفي الدائر بينهما, والذي يدور في غرف مقرات قيادة العمليات العسكرية لميليشيات الأسد, وأن كلاً من طهران وموسكو لا تخفيان الرغبة في السيطرة على قرار تلك المقرات عبر ضباط “البعث” الموالين لكل طرف, وروسيا لا تنكر امتعاضها من منع طهران للضباط الروس من دخول مقرات القيادة الأرضية في ساحات وميادين القتال, لأنها تدرك أن فقدان تلك المواقع يعني الكثير للقيادة الإيرانية, حتى أن روسيا تفاجأت بمدى ضعف “بشار الأسد” الذي فشل حتى في إدخال بعض الضباط السوريين المحسوبين على موسكو إلى الهيكل القيادي لغرف العمليات تلك.
تصفية الثورة والإطاحة برأس بشار الأسد
رغم التطمينات التي نقلتها موسكو لطهران إلا أن الأخيرة تستشعر بالخطر على نفوذها في الداخل السوري, وبنفس الوقت لديها معطيات أن عملية الإطاحة برؤوس الفصائل الثورية الفاعلة من قبل الطيران الروسي ووفقاً للخطة المعتمدة بين الرئيسين “أوباما” و”بوتين” لن تكون بلا ثمن, فالخطة الأمريكية_ الروسية التي يتم التكتم عنها والتي تقضي بتصفية الثورة السورية تعطي الكثير من المخاوف لإيران, لأنها تعرف حق المعرفة أن واشنطن لن توافق على تلك الصفقة دون أن تقبض الثمن المتمثل بتعهد روسي بإخراج عناصر حزب الله وميليشيات قاسم سليماني من الأراضي السورية, وبقاء سوريا في الحضن الروسي فقط, وطهران تقول أن الروس تعهدوا بذلك وباعوا الجميع.
الهدنة التي نجمت عن ضغوط إقليمية وعربية وأوروبية بعد انكشاف الدور الروسي, والخطة “باء” التي يتحدث عنها وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري”, ويؤكدها بشكل شبه يومي وزير الخارجية السعودي “عادل الجبير”, تلك الخطة هي ورقة الضغط الوحيدة المتبقية بيد حلفاء الثورة, ولكن الجميع يعلم أن خطوط إمداد الثوار المغلقة حتى الآن لا تبشر بأي خطة بديلة, والجميع يعلم أيضاً أن بعض الأسلحة النوعية قادرة على أن تكون البديل لأي تدخل عسكري سواءاً كان إقليمياً أو عربياً أو دولياً , لكن الواقع يقول أن هناك استحالة في الإقدام على أي تدخل عسكري في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية, إضافة إلى عدم تواجد أي نية أمريكية لمثل هكذا خطوة.
وفق التسريبات فنحن أمام ستة أشهر قادمة على سوريا, قد تكون كلمة “أشهر سوداء” هي أقل ما تعبر عن قساوتها, وقد تنقلب لحرب أوسع إذا ما أخل الروس بتعهداتهم لواشنطن.
الثوار وفصائل الجيش الحر عودونا دائماً أن يكونوا الأقوى في اللحظات الصعبة, والشعب السوري اعتاد أن رجاله قادرون على قلب كل التوقعات, وقناعة أهل سوريا تقول” كلما اشتدت … هانت”.
تعهدات الأطراف تحاول تطبيق الخطة الأمريكية_الروسية, لكن من المؤكد أن تلك التعهدات أغضبت الإيرانيين وأراحت الأمريكيين وقد تجعل من بوتين أكبر الرابحين.
لكن المؤكد أكثر أن الشعب السوري وفي اللحظة التي تتكشف فيها النوايا وتثبت له المؤامرة فلن يقبل بأن يكون هو أكبر الخاسرين.
افهموها كما تشاؤون ….
العميد الركن أحمد رحال
محلل عسكري واستراتيجي
كلنا شركاء