اذا شئنا اسقاط مقولة (حسني البورظان) على الواقع الحالي، فان صيغتها تصبح كالتالي: "اذا اردنا ان نعرف ماذا في (صفقة القرن) فعلينا ان نعرف كيف يفكر نتانياهو!". فكل ما يريده نتانياهو، ويوسوس به لترامب، سنجده في نهاية المطاف موجودا ومنصوصا عليه في الصفقة.
البوابة- بسام العنتري
أتذكرون الفنان السوري الراحل نهاد قلعي (حسني البورظان) وجملته الشهيرة في مسلسل (صح النوم) والتي ظل يرددها كاستهلال لمقال صحافي لم يتمكن من إتمامه ابدا: "إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، فعلينا أن نعرف ماذا في البرازيل؟".
وهل تذكرون رفيق مشواره الفني دريد لحام (غوار)، وقصيدته "السوريالية" التي اثارت شجن القبضاي (أبو عنتر) في مسلسل (وين الغلط)، ويقول في مطلعها "زنجية شقراء سكنت في بيضة دجاجة!".
لم نفهم حينها ما الذي جعل أبا عنتر يتأثر بهذا القدر للقصيدة، رغم افتقارها الى أي منطق، ورغم انه لم يفقه منها شيئا.
وبمناسبة تقليعة الحديث الرائجة هذه الايام حول "صفقة القرن"، أجدني غير قادر على مغالبة اغراء عقد المقارنات بين مشهد غوار وأبي عنتر، وحالنا كشعوب عربية مع محللينا وسياسيينا الذين جعلتنا اراؤهم نعيش في تخبط وعدم يقين بشأن الصفقة.
فهؤلاء المحللون والسياسيون في واقع الامر، لم يفتأوا يلقون علينا لعثمات غير مفهومة وأضغاثا مغمسة بالتمنيات ونظريات المؤامرة حول ماورائيات وغيوب الصفقة، ونحن كجمهور متفرج مغلوب على أمره، لا نزال نثور ونسكن ونغضب ونرضى بفعل ما يصبونه في آذاننا، رغم اننا لا نفقه منه شيئا، بل ولا يزيدنا إلا ضلالا.
محللونا وسياسيونا العرب لم يفتأوا يلقون علينا لعثمات غير مفهومة وأضغاثا مغمسة بالتمنيات ونظريات المؤامرة حول ماورائيات وغيوب الصفقة
أما مشهد البورظان الغارق في سؤال "ايطاليا والبرازيل"، فأرى انه رغم سخريته ظاهريا، لكنه جدير بالاهتمام. بل لعله السبيل الاوحد المتوافر لنا حاليا من اجل فهم بعض جوانب الصفقة بطريقة تتحرى المنهج العلمي.
واذا شئنا اسقاط مقولة البورظان على الواقع الحالي، فان صيغتها تصبح كالتالي: "اذا اردنا ان نعرف ماذا في (صفقة القرن) فعلينا ان نعرف كيف يفكر نتانياهو!".
ففي المحصلة، ودون اغراق في التفاصيل الفرعية التي يعرفها الجميع، كل ما اراده نتانياهو، ووسوس به لترامب، سنجده في نهاية المطاف موجودا ومنصوصا عليه في الصفقة.
*نماذج أندورا وكوستاريكا وبورتوريكو
يسجل التاريخ أن تفكير وتصور نتانياهو للحل وللكيان الفلسطيني ضمن اي اتفاق سلام مع الفلسطينيين، قد تطور عبر ثلاثة مراحل اساسية، استلهمت الاولى نموذج إمارة أندورا، والثانية جمهورية كوستاريكا، والثالثة اقليم بورتوريكو.
بالنسبة لاندورا -الامارة الصغيرة الواقعة بين فرنسا واسبانيا، والتي لا تزيد مساحتها عن بضع مئات الكيلومترات وسكانها ثمانون الفا او يزيدون- أراد نتانياهو من طرح نموذجها في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ان يغري الفلسطينيين بقبول تحولهم الى كيان مماثل يرفل بالرفاه اقتصاديا ومعيشيا، ولكنه ليس دولة مكتملة الاركان.
وفي الحقيقة، فإن لدى هذه الامارة الكثير مما يشي بالاستقلال، حيث تديره حكومة محلية منتخبة، كما انه معترف به دوليا، لكنه ايضا يفتقر لمقومات اساسية للسيادة، فهو بلا جيش ولا مطار، ورئاسته صورية تتقاسمها فرنسا واسبانيا.
ودرجا على مقولة "رب ضارة نافعة" فقد تحولت نقمة نقص السيادة الى مصدر نعمة للاندوريين، حيث ان الاموال والمقدرات الطائلة التي كانوا سينفقونها على الجيش والدفاع وحراسة الحدود، قد باتت تضخ بدلا من ذلك مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية، ما اورثهم رفاها ما كان سيتحقق لهم فيما لو كانت امارتهم تتمتع بسيادة كاملة وجيش يلتهم ثرواتها!.
لم يبتلع الفلسطينيون الطعم حينها، بل لم يعيروه أكثر من السخرية لأن شهيتهم لا تقنع بما هو اقل من دولة كباقي دول العالم، تمتلك جيشا وجنودا وحدودا.
ولكن مع دخولهم في دوامة الضعف المطبق في السنوات اللاحقة بفعل تراجع الدعم والتأييد العربي لقضيتهم، اعتبر نتانياهو ان الفرصة سانحة لاعادة الطرق على حديد القضية بينما هو حام، وعلى رؤوس الفلسطينيين فيما هي لا تزال تدور، فاجتر نموذج كوستاريكا ليقنعهم مجددا من خلاله بأنهم ليسوا بحاجة الى ما يظنونه مقومات سيادة لكيانهم العتيد، وان هذا الكيان يمكن ان يستمر بالفعل من دون تلك المقومات المنتقصة.
وقال لهم يومها ان كوستاريكا، الدولة الواقعة في اميركا الوسطى، والتي سرحت جيشها اواسط القرن الماضي بعدما اعيتها انقلاباته المتتالية، لا تزال قائمة من حينها وهي تعيش في رفاه من اهم اسبابه تخليها عن هذا المظهر السيادي الذي ثبت انه لا لزوم له، الا وهو الجيش، حيث ان دول الجوار هي من تتكفل بحماية حدود ذلك البلد.
وأيضا، مرت ثرثرة نتانياهو هذه كسابقتها، ولم تنل من الفلسطينيين اكثر من ابتسامة ساخرة ورفض اكيد.
تاريخيا، تطور تصور نتانياهو لشكل الكيان الفلسطيني المستقبلي عبر ثلاثة مراحل اساسية، استلهمت الاولى نموذج إمارة أندورا، والثانية جمهورية كوستاريكا، وأخيرا بورتوريكو.
كان نتانياهو يريد من هذا الطرح اقناع العالم والفلسطينيين برؤيته لكيان عربي في الضفة الغربية منزوع السلاح، وذهنه فعليا منصب على كيفية ترويض اهل الارض الاصليين توطئة لانهاء قضيتهم وابتلاعهم مع ارضهم. أما قطاع غزة فسيأتي عليه الدور لاحقا وعبر ترتيبات مماثلة.
وحين أطلت الترامبية بسخائها الاسطوري على سماء الدولة العبرية، مع ما رافقه من انكشاف ظهر الفلسطينيين مع اندثار دور ما يسمى العالم العربي كعمق مؤثر يدعمهم، وكذلك مع تقلص المساحة المتاحة لهم لاقامة كيانهم المأمول بفعل الزحف والقضم الاستيطاني الشرس، رأى نتانياهو ان الفرصة قد لاحت لتسديد الضربة القاضية.
اصبح يصرح بأنه يريد ابتلاع الضفة كاملة بعجرها وبجرها، اي بارضها وشعبها، وبسط سيادة كيان دولته عليهما. وحتى يسكت المعارضين، سواء من الاسرائيليين في الداخل او الغربيين المتشدقين بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها -وطبعا لم يكن لموقف الفلسطينيين أهمية ولا وزن في حساباته- أخرج من جعبته نموذج "بورتوريكو" ذلك الاقليم من الجزر الواقعة في البحر الكاريبي والذي يتبع للولايات المتحدة.
كانت اسبانيا قد تنازلت عن بورتوريكو للولايات المتحدة في عام 1898، وبات سكانه يتمتعون بالجنسية الاميركية اعتبارا من العام 1917، لكن لا يحق لهم المشاركة في الانتخابات الرئاسية، وكثير من قوانينهم يشرعها الكونغرس في واسنطن.
كلمة السر هي أن بورتوريكو لا تنتخب. بمعنى انه اذا طبق نموذجها على الفلسطينيين بعد ان يضم الضفة فسوف لن يؤثر تعدادهم السكاني في المعطيات الانتخابية ومجمل العملية السياسية الداخلية في اسرائيل. والأهم انه لن يجد معارضة تذكر من الغرب، بل على العكس، ربما يلقى قبولا وترحيبا، حيث ان النموذج ليس ابتكارا من بنات افكاره، فهو قائم بالفعل ولم يسبق ان سمعنا اعتراضا عليه مما يسمى المجتمع الدولي.
وطبعا اذا اضفنا الى هذه المعادلة قانون القومية الذي سبق ان اقرته اسرائيل ويعطي اليهود حصرا حق تقرير المصير في ما يعتبرونه دولتهم، فتكون القصة قد اكتملت، وحقق نتانياهو رؤيته الخاصة للحل النهائي للقضية الفلسطينية.
* جذور رؤية نتانياهو للحل
تعود جذور رؤية نتانياهو للحل النهائي للقضية الفلسطينية -وهي رؤية تطورت وتبدلت مع السنوات لكنها احتفظت بجوهرها- الى بدايات توليه رئاسة الحكومة الاسرائيلية في تسعينيات القرن الماضي. وقد كشف عنها في مقابلة متلفزة اجراها معه السير ديفيد فروست عام 1997، وتطرقت خصوصا الى شكل الكيان الفلسطيني المستقبلي، وقضيتي اللاجئين والقدس.
قال نتانياهو في المقابلة وهو يرد على سؤال لفروست حول رؤيته لحق الفلسطينيين في الاستقلال بدولة وفي تقرير المصير:
"اذا قلنا انه في كل مكان تجد مطلبا بالاستقلال ويتم الحصول على ذلك الاستقلال، فسوف تخلق تشظيات لها تبعات هائلة حول العالم، وسنشهد ظهور دول فرعية، كل منها لها جيشها، واسلحتها، اسلحتها التقليدية، وربما غير التقليدية. ونحن نقول، حسنا، ما هو الخيار؟ انه إما الاخضاع او حق تقرير المصير. وأنا أظن أن هناك طريقا ثالثا، حق تقرير مصير متوازن (يتيح) سلطات لتلك المجموعة القومية او العرقية، ولكن ليس كل السلطات".
نتانياهو: "حسنا، ما هو الخيار؟ انه إما الاخضاع او حق تقرير المصير. وأنا أظن أن هناك طريقا ثالثا، حق تقرير مصير متوازن (يتيح) سلطات لتلك المجموعة القومية او العرقية، ولكن ليس كل السلطات"
حينها تدخل فروست قائلا: "اذا نحن نتحدث عن "دويلة"، أو هل هناك كلمة اخرى لهذا؟"؟
فرد نتانياهو بالقول: "أتعلم، اقع في الكثير من المتاعب كلما خضت في هذا. في كل مرة اواجه بذلك السؤال، وإذا تمت مواجهتي بسؤال: "هل تؤيد الدولة؟ أقول لا. وإذا سألتني "دويلة"، صدقني، سيصبح هذا مانشيتا للصحافة حول العالم".
سأخبرك بشئ حصل معي، كنت اجلس في هذه الغرفة، في هذه الغرفة بالضبط، مع سفراء من احدى القارات، وقالوا لي "حسنا، ماذا بشأن دولة فلسطينية؟"، فأعطيتهم هذه الاجابة. فقالوا "حسنا، ماذا بشأن حق تقرير المصير؟"، فقلت "حسنا، ماذا تعنون بذلك؟ هل تعنون، وبدأت باعطاء أمثلة: "هل تعنون اندورا؟ هل تعنون هذا؟ هل تعنون ذاك؟". المانشيت في اليوم التالي كان: "نتانياهو يفضل حل أندورا".
وافقه فروست في هذا قائلا: "قرأت ذلك. كان حل أندورا او حل بورتوريكو".
فأجاب نتانياهو مستدركا: "أو بورتوريكو، نعم. اعطيت بضعة أمثلة. كما ترى، أنا الان أحرص على عدم ذكر الكثير من الاسماء. لكن قلت: "ماذا تعنون بذلك؟". لم اقل اي شئ حاسم. حسنا، خلاصة القصة هي أنني ذهبت الى مؤتمر لشبونة، وكان كل رؤساء دول أوروبا هناك، وكنت انا ايضا مدعوا. وتناولنا غداء رائعا في القصر هناك في لشبونة، وسار نحوي أحد السادة وقال "أنا رئيس وزراء أندورا"، فقلت "أسمع اننا أسأنا اليكم" لانني كان لدي بعض القلق. قال: "لا، كرامة لله، لا تُتخي نموذج اندورا. حظينا باهتمام لم نحظ بمثله منذ ثلاثين عاما. الناس يأتون، الناس مهتمون" والى ما هناك. حسنا، لم اعطها اسما، ولم اعطها اسما بعد، ولكنني سأفعل".
عند هذه النقطة، الح فروست بالسؤال: "حل اندورا؟". فأجاب نتانياهو "حل سنعرضه من اجل التوصل الى تسوية نهائية. وبالمناسبة، اعتقد ان بامكاننا التوصل الى حل بيننا وبين الفلسطينيين. اعتقد ان (القضية) قابلة للحل. صعبة، لكن قابلة للحل".
"علينا ان نحل مشكلة مواءمة أمننا مع رغبتهم في الحرية وإرثنا، مطالبنا التاريخية مع مطالبهم. وفكرتي لحلها هي بطريقة يدير فيها (الفلسطينيون) شؤونهم الخاصة. لديهم حكومة ذاتية، يختارون ممثليهم، يشرعون قوانيهم. يجبون ضرائبهم. يديرون كل مناحي حياتهم دون تدخل منا. انه حكم ذاتي. لكن تلك السلطات التي يمكن ان تهدد اسرائيل، ومصالحنا الاساسية، بما فيها أمننا، ستبقى تحت سيطرة اسرائيل".
نتانياهو: "السلطات التي يمكن ان تهدد اسرائيل، ومصالحنا الاساسية، بما فيها أمننا، ستبقى تحت سيطرة اسرائيل"
"يجب ان تكون هناك قيود على السلطات في هذه المناطق (الضفة الغربية) كل سلطات كيان الحكم الذاتي التي يمكن ان تهدد اسرائيل. وما اقترحه بالضبط هو ان ندعهم يحصلون على اكثر انواع الحكم الذاتي سخاء، بعيدا عن هذه السلطات السيادية التي يمكن ان تهددنا وان تهدد السلام، هذه هي الفكرة التي في مخيلتي".
وحين سأله فروست: "هل يمكنهم امتلاك جيش حسب تعريفك هذا؟ أجاب: "لديهم بالفعل قوة مسلحة الان. حوالي 24 او 25 الف شخص. من الواضح انها (القوة) اذا نمت، فستغدو تهديدا أساسيا. هي كافية بالنسبة لهم من اجل السيطرة على الامن الداخلي. ينبغي ان ضمن هذه الحدود حتى لا تهدد أمننا".
سأله فروست ايضا: "هل سيكون بمقدورهم ابرام معاهدات مع دول اخرى بحسب تعريفك"، فرد نتانياهو على الفور: "لا". ثم استدرك قائلا: "حسنا، ليس معاهدات عسكرية".
وعما اذا كان بمقدور الكيان الجديد استقبال فلسطينيين عائدين من الشتات، قال نتانياهو: "هذا موضوع شائك". واستفهم من فروست إن كان يقصد عودة الفلسطينيين "الى داخل مناطق سيطرتهم؟"، وحين اجابه الاخير بنعم، قال أن "هذا ا مر سيكون علينا التفاوض بشانه".
نتانياهو: القدس اليوم "مفتوحة لكل الديانات الثلاث. وهي لم تكن كذلك الا تحت السيادة الاسرائيلية، وهكذا ستبقى"
قال له فروست: "عندما التقيت ياسر عرفات اخبرني ان هناك نحو خمسة ملايين لاجئ فلسطيني في الشتات، وان نحو نصف مليون منهم كحد اقصى سيرغبون في العودة. هل يمكن التاقلم مع هذا العدد". فعاود نتانياهو السؤال: "الى منطقة الحكم الذاتي ؟" فأجاب فروست مجددا: "نعم".
وأيضا عاود نتانياهو نفس مضمون الاجابة الاول: "سيكون علينا مناقشة هذا. بالطبع ليس الى اسرائيل، اسرائيل كما تعلم دولة صغيرة".
وبالنسبة لوضع القدس لخص نتانياهو رؤيته قائلا: "القدس كانت عاصمة الشعب اليهودي لثلاثة الاف عام. تم سلبها منا. كانت مقسمة، كان هناك "جدار برلين" مبنيا فيها على مدى 19 عاما، حتى عام 1967. الان هي مدينة مفتوحة. هي مفتوحة لكل الديانات الثلاث. وهي لم تكن كذلك الا تحت السيادة الاسرائيلية، وهكذا ستبقى".
"هل هناك احد يعتقد اننا يمكن حقا ان نسمح باعادة بناء "جدار برلين" في وسط مدينتنا؟ وأنه سيكون لدينا سلك شائك مرة اخرى؟ وأننا سنمزق المدينة مرة اخرى الى اثنتين. هذا لن يحصل".